في رحيل العم نادر حتاحت.. عليه رحمة الله
قبل ثماني سنوات، مضت خالتي الصغيرة يمان، التي تكبرني بثمانية شهور وكانت أختا منذ أيام الصبا.. واليوم يمضي زوجها العم نادر الذي كان أخاً كبيراً منذ زواجهما قبل نحو خمس وأربعين سنة. أبكي اليوم الأخ الكبير الذي رحل، وأبكي معه الشقيقة الراحلة من جديد.. منذ شهدت زواجهما عام ١٩٧٠ كانا زوجين رائعين، اجتمعا وتحابّا وتفاهما على مرضاة الله، فبنيا بيتا تحفّه بركات السماء. في زمن البرقيات القديم كان توقيعهما معا "يمادر"، اختصاراً ليمان ونادر، وبقيت كلمة "يمادر" اسماً لهذه العائلة الصغيرة حتى اليوم بعد رحيل عموديها. كانا متفقين في كثير، ومما اتفقا فيه الكرم، الخصلة التي أعشقها، أكاد لا أعرف أكرم منها وأكاد لا أعرف أكرم منه، لم يقصدها أحد في أمر وردّته ولم يقصده أحد في أمر وردّه، وكل يوم نكتشف باب إنفاقٍ كان يبذل فيه ولم يعلم به أحد تقبل الله منه. وكان رحمه الله محباً للنظام، وهذه خصلة أعشقها أيضا، فكان بيتهم غاية في النظام كأنه مكتب شركة، دون أن يفقد شيئاً من دفئه وكرم ضيافته. وكان ذو خط كبير جميل مميّز يكاد يعكس شخصيته الواضحة الصادقة. وكان محبّاً للعلم والأدب متذوقاً له، يقدم لنا الكتاب يحدّثنا عنه ويزيّنه لنا فنشتهي قراءته، ومثل ذلك وهو يدعونا إلى مائدته العامرة في بيته المضياف، يقدم الطعام ويشهّي فيه الآكلين. أتذكّر زيارتي الطويلة لهم والحج الذي رافقته فيه عام ١٩٧٤، ولم يكن ينوي الحج في تلك السنة فخرج من أجلي، والأيام الجميلة التي قضيتها معهم في بيتهم الصغير في البغدادية في جدة، وأكل المطبقات في مطعم البخاري في الكيل الثامن لطريق المدينة وكان خارج المدينة التي كانت تنتهي بشارع فلسطين في تلك الأيام. هذه الزيارة التي اشتريت فيها أول كمرة عظيمة من كنن بالإضافة إلى كمرة سينمائية صغيرة (صامتة طبعا) والتقطت كثيراً من الصور في جدة ومكة، (تفاصيل تلك الزيارة في كتابي "صور من الذاكرة مع جدي علي الطنطاوي وخواطر بين يديه"، المكتوب من أكثر من عشر سنوات ولم بإذن الله أن يطبع بعد). وفي هذه الزيارة عرفت ابن الخالة عمرو في خطواته الأولى، وصار عمرو ابن الخالة الأعزّ عليّ، والبقية أعزاء أيضا، عمرو الذي صار يناديني خالي بعد وفاة أمه لأن أمه كانت أختا، عليها رحمة الله، وهو عندي الأخ الصغير الحبيب. أرى اليوم طلاب العم نادر الذين درّسهم في مكة وجدة قبل نصف قرن يتوافدون للعزاء عيونهم دامعة وقلوبهم تبكي معلّمهم القديم، وزملاءه في عمله الطويل في شركة ردك التي انتهى مديرا ماليا لها قبل عقود، يعرفه فيها ويحبّه الكبير والصغير، من رأس الشركة إلى حارسها، وكذلك روّاد المسجد الذي لم ينقطع عنه، وروّاد كل مسجد صلى فيه. في أحد الأيام الأخيرة له وهما يهمّان بالخروج للصلاة قال لعمرو أنه متعب، فظن عمرو أنه سيصلي في البيت، فقال له "لا بل قصدت أن نذهب إلى المسجد بالسيارة". لم ينقطع عن المسجد حتى يوم وفاته عليه رحمة الله. قبل أيام قليلة من وفاته رحمه الله نادى ابنه عمرو وقال له "لقد اشتقت إلى أمّك"... لعله سمع لها نداء فقدّر الله له أن يلبّي نداءها.. فلبّاه... رحمهما الله وجمعهما في مستقرّ رحمته...
المصدر : رابطة العلماء السوريين
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة