رمضان شهر القوة والجهاد
الإسلام دين القوة، فـ "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف" [قطعة من حديث رواه البخاري ومسلم ] ، وقد مدح الله القوي في قرآنه، وأثنى عليه على لسان إحدى ابنتي شعيب، بقوله: {قَالَتْ إحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ (26)}[القصص] ، كما مدح القوة والبأس في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ والَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح] ودعا الأمة إلى الأخذ بأسباب القوة، والإعداد لملاقاة الأعداء بكل ما تستطيعه منها، بقوله: {وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ومِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكُمْ } [الأنفال]. والقوة المطلوب أعدادها لتحقيق النصر، نوعان: قوة مادية ظاهرة، تتجلى في إعداد الرجال والسلاح، وكل ما يجب إعداده لملاقاة العدو في كل زمان ومكان، فإذا كانت السيوف والرماح والخيول من وسائل القوة المادية في العصر النبوي، وقد أمر المسلمون بإعداد ما يستطيعون منها، ففي زماننا هذا، يجب على المسلمين إعدادا ما يستطيعونه من القوة والوسائل الحربية، الحديثة التقليدية منها وغير التقليدية، العلمية والاقتصادية، وكلّ وسيلة يستطيع المسلمون تحصيلها للدفاع عن دين الله، ورفع راية الإسلام، والدعوة إلى الله، ونشرها بين الناس، وحماية أوطانهم، يجب عليهم تحصيلها، وإعدادها لملاقاة أعدائهم فهذه هي القوة المادية التي أمرنا الله سبحانه وتعالى بإعدادها لعدونا. أما القوة الثانية: فهي القوة المعنوية: وتتمثل بالإيمان، وقوة العقيدة وقوة الروح، وقوة الأخلاق التي تشع من نفس المؤمن، وجماع هذه الأمور كلها صدق العبودية لله عز وجل، وتمام الالتجاء إليه، والتبرؤ من كلّ حول وقوة إلا حوله وقوته، فإذا توفرت للأمة كل أسباب النصر المادية وغاب عنها صدق الإيمان بالله، ولم تتحقق بكمال العبودية له سبحانه، لم تستطيع تحقيق النصر. والسبيل الصحيح لتحقيق النصر، وإقامة حياة سعيدة للمجتمع، يكون بتضافر القوة المادية والقوة الروحية المعنوية، والحق إنّ وجود القوة المعنوية مع ما يمكن تحقيقه من القوة المادية، وإن كانت قليلة، يمكنها أن تحقق النصر على القوة المادية وتغلبها، إذا هي فقدت الباعث المعنوي قال الله عز وجل { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)} [البقرة]. ولا ريب أن من أسرار منهج الله في هذا الشهر المبارك، أنه يقوي الجانب المادي والمعنوي لدى الأمة، فيبعث فيها القوة والصبر، ويجدد الإيمان والعزم في نفوس أبنائها، كما يجدد القوة والنشاط في أجسامهم فهو منهج رباني متكامل، يجمع بين القوتين جمعاً رائعاً متلائماً، يؤتي أحسن الثمار، فهو من الناحية الصحية قوة للجسم، يدفع عنه الكثير من الأمراض ويشفيه من كثير من العلل، وهو من الناحية المعنوية، يعطي المسلم قوة معنوية، لها أكبر أثر في سعادة الأفراد والمجتمعات، فيعطيه قوة الصبر، وقوة النظام، وقوة الطاعة، وقوة التحمل، وقوة الإيمان، فهل يمكن لأمة تتحلى بهذه الصفات، وهذه القوى المادية والمعنوية أن تهزم؟.. أو تجد الهزيمة إلى نفوس أبنائها سبيلاً؟.. ولو قلبنا صفحات التاريخ، ووقفنا عند كلّ معركة، حقق فيها المسلمون النصر على أعدائهم، وتساءلنا، ما الأسباب التي أدت إلى هذا النصر المظفر في هذه المعارك، مع ما كان فيها من عدم التوازن في القوة المادية؟. ما سرّ هذا النصر مع قلة عدد جنود المسلمين والضعف في تسليحهم المادي؟. السر: في تلك القوة المعنوية الكبيرة التي كانوا يتحلون بها، هذه القوة المنيعة من صدق عبوديتهم لله سبحانه، وتمسكهم بمنهج الله في الصيام وتخلقهم بأخلاق الصائمين في شهر رمضان، من عفة، وسمو، وتضحية، وصبر، وتحمل للشدائد، وخضوع لله تعالى واستعلاء على الشهوات، فقد عودهم شهر الصيام على مقاومة الشهوات، وتحمل الجوع والعطش محتسبين الأجر عند الله، وهذه هي القوة الحقيقية التي يمنحها منهج الله المتكامل في شهر رمضان للصائمين. وفي شهر رمضان كانت معظم معارك الجهاد، التي خاضها المسلمون لإعلاء كلمة الله، وحققوا فيها أروع الانتصارات على أنفسهم أولاً، وعلى أعداء الأمة ثانياً، ولم يكن الصوم عذراً للتخاذل والضعف والكسل والتواني، بل كان منهجاً تدرب من خلاله المؤمنون على الجهاد بكل أنواعه، فقد جاهدوا في أنفسهم الجبن والخوف والكسل، وكلّ نزعات النفس والشيطان والشهوات فأصبحت الطريق معبّدة أمامهم لجهاد أعداء الله، ونشر راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله) مرفرفة عالية في كلّ أصقاع الأرض. في شهر رمضان، كانت غزوة بدر الكبرى، وفيه كان الفتح العظيم لمكة المكرمة، وفيه من السنة التاسعة للهجرة، كانت غزوة تبوك، وفي رمضان، سنة اثنتين وتسعين هجرية فتح المسلمون الأندلس، وانتصر القائد المسلم البطل طارق بن زياد على ملك الروم (لزريق)، وفي رمضان من سنة أربع وثمانين وخمسمئة للهجرة، وكان القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي، قد أحرز انتصارات كبيرة على الصليبيين، واستردّ منهم كثيراً من البلدان، ولما دخل شهر رمضان، أشار عليه بعض أصحابه أن يرتاح في هذا الشهر، (هذا الشهر الذي يسافر الإنسان أين كان ليجتمع بأهله لكن صلاح الدين يرفض أن يرتاح قائلاً: إن العمر قصير والأجل غير مأمون، وواصل زحفه حتى استولى على قلعة صفد، (وفتح الله علينا صفد ثامن من شوال، حين فرغنا من صوم ست منه بعد صوم رمضان وجمعنا بين فضيلتي الصوم والجهاد) [من كتاب الروضتين في أخبار الدولتين لابن شدّاد 2/135]. . فهل يهزم جيش يخوض المعارك وهو صائم الفرض في رمضان مع حرصه على صيام النفل في ست من شوال؟.. وفي رمضان من سنة ثمان وخمسين وستمئة، خاض المسلمون معركة (عين جالوت) ليوقفوا زحف التتار المدمر على بلاد المسلمين، ويردوهم على أعقابهم ويقضوا على أحلامهم وأهدافهم في القضاء على الإسلام والمسلمين. وهكذا حقق المسلمون الصائمون المتمسكون بمنهج الله في الصيام النصر على أعدائهم، في هذه المعارك بعد أن تربوا في شهر رمضان على مجاهدة أنفسهم، وغرائزهم وشهواتهم، وانتصروا عليها، وهذا هو الجهاد الحقيقي وهو الجهاد الأكبر، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رجع من إحدى المعارك، "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، جهاد النفس"، من كتاب (رمضان منهج متكامل في تربية الفرد وبناء المجتمع) باختصار
المصدر : رابطة العلماء السوريين
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن