الرحمة بالأجيال يا دُعاة الأمة
يضيقُ فؤادي كلَّما زادَت الفجوةُ ما بين الأجيال وأهل العلم، ويكادُ يرتبكُ لساني كلَّما كانت حجةُ النَّاس حقيقيةً واقعيةً.
أؤمنُ أنَّنا نحتاجُ للأشخاص لتثبيت الأفكار، ولذلك وردَ في القرآن ذكرُ إبليس والأنبياء وقارون وفرعون وغيرهم؛ إذ إنَّنا بفطرتنا نحتاجُ لأن تُجَسَّد الأفكار أشخاصاً وكلمات فنعايش هذه الأفكار ونقرأها ونراها ونسمعها.
كبرنا وَنَحْنُ نحملُ الحبّ لِمَن يتحدث باسم الدين ونقرُّ لهم التقدير والاحترام، وكُنّا نتجنّب أي اصطدام معهم احتراماً لقدرهم ومكانتهم وللعلم الذي يقدّمونه، إلى أن بدأت الفجوة تزداد إلى الحد الذي باتَ العالم يسير باتجاه ويصرُّ أهلُ الدعوات أن يسيروا باتجاه آخر.
وباتت الأجيال ترى الدعوة إلى الدِّين في معظمها إمَّا مرتبطةً بتيارٍ مُتَشَدِّدٍ يرى في كلِّ لباسٍ زينةً وتبرّجاً، ويصنِّف النَّاس هذا للجنة وذاكَ للنَّار، أو بتيارٍ آخرَ جعلَ أمرَ السياسة يفوقُ الدِّين وبات جلُّ حديثه مرتبطاً بالأوضاع ارتباطاً يغلب التربية وينسى الحاجة لتذكير النَّاس بالشأن الدعوي والروحي، وبين هذا وذاك كانَ هناكَ تيارٌ ثالث تصدَّر المشهد ومالت له قلوب معظم النَّاس قدَّم الدين بروحانياته ومحبته عازفاً على وتر العواطف، وعلَّ هذا ما كان الأنسب لكثيرٍ منَّا إلى زمنٍ قريبٍ جداً.
تسارَعت الأحداث في المنطقة وجلبَت معها الكثير من الشجن والصعوبات والمشاكل، إلَّا أنَّها كشفت حدثاً تلو آخر عن مشكلة الخطاب الديني الحقيقية في مجتمعاتنا.
وبدأنا نرى مَن كنا نعدهم أهلاً للعلم ودعاةً للحق يوارون في كلامهم ويبررون سفك الدماء ويحابون أهل الظلم عياناً جهاراً رغم مئات القصص التي رددوها على مسامعنا صبحةً وعشيةً عن ثبات الصحابة وقوة المؤمنين، ثمَّ بدأنا نرى جزءاً كبيراً منهم يتوالون في الكذبات والسكت عن المظالم وغيرها.
وبين مَن يقول لا تتكلموا في العلماء فلحومهم مسمومة، وبين مَن يقدِّس الأشخاص حتى بعد كشف أقنعتهم ضاع عدد كبير من الجيل بعيداً عن كلّ الدعوات باحثاً له عن طرقٍ جديدة قريبةٍ أو بعيدة.
الرحمة بهذه الأجيال يا "دعاة" الأمة، فكلمة الحق التي تخافون اليوم مِن قولها، وكلمات الظلم التي تتصدر صفحاتكم الشخصية زادَت شرخاً في قلوب النَّاس تجاه المتحدثين في هذا الدين وشأنه.
والرحمة في هذه الأجيال يا مَن تربيتم على اتزان الدين وجماله ثم وجهتم طاقاتكم كاملةً نحو السياسة متناسين أو متجاهلين أن هناك مَن يحتاج مَن يكلِّمه عن الله وأهله.
تملِكُ الأجيال أن تخطَّ لها طريقاً مختلفاً، وأن تبحث عن الأفكار عبر الكتب والمراجع والكون بأسره، لكن التغييرات الحقيقية في المجتمع تحتاج لمظلات ترعاها وتتكاثف مع جهودها.
وتراكمُ الخبرات في الدعوات يُحدِث فرقاً في المجتمع إذا تبنّى الأجيال واستثمر مهاراتها.
وتبقى الأفكار وحيدةً شخصيةً ما لم تؤثر على سمتٍ عامٍ في المجتمع.
لا نحتاجُ أن نقدِّس الأشخاص ونتعلق بهم حتى إذا تكشفت وجوه أخرى لهم أخذنا موقفاً من الدين ومنهم، ولا نريد أن نصل لمرحلةٍ تفقد فيها الأجيال ثقتها بكل خطاب وكلِّ متحدث، وإن لم يتصدر أهل الدعوات المتوازنة الواعية لهذا الأمر اليوم فالفجوة في ازدياد غير محمود العقبى أبداً.
علَّ هذه الأحداث وهذه التقلبات وهذه التناقضات التي نراها على مَن يتكلم في الدين تبعاً واحداً تلو الآخر تورث في قلوبنا إصراراً أكبر على التمسك بهذه الدعوة وهذا الدين برَّاً به وبأهله، وإيماناً بأن الخير في هذه الأمة باقٍ لا انتهاء فيه.
المصدر : هافينغتون بوست
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن