الحرية تحتاج إلى مدفع
يحدث أن يألف الناس شيئا فيغدو عادة، ويتقبّلونه حتى يصبح بديهة، ونفسية البشر تتقبّل حتّى الإهانة المذلّة حين تتعوّد عليها، هذا ما لخّصه المفكر مالك بن نبي في فكرته الشهيرة عن وجود شعوب لها قابلية للاستعمار. والحال كما ذكر ابن نبي أنًنا بالفعل قد اختلًت فطرتنا واعوجّت جبلّة أكثرنا فلسطينيين خاصة وعربا عامًة إلى درجة أصبحت فيها أنصاف الحلول حلولا نحتفل بها، والمفاوضات صارت منهج مقاومة لا محيد عنها، فانتقلنا من "سنرمي إسرائيل في البحر" إلى "مسار السلام وحلً الدولتين"، ومن فلسطين التاريخية إلى دولة على حدود 67 ومسلسل التنازلات مستمرّ.
بدأ أبو عمًار ببندقية وغصن زيتون ووصلنا إلى تحطيم البندقية والتلويح بالغصن في وجه الدبابة ولو تركنا البندقية تعمل عملها لأصبح الغصن شجرة يانعة تؤتي أكلها حرّية وكرامة، ولو سُقيت بدم الشهداء لطعمنا زيتون دير البلح وبرتقال يافا ممزوجا بعبق الثورة المقدّسة، لكنّنا ابتلينا بحكّام رفعوا للصهاينة في عواصمنا راية وجعلوا من العمالة غاية لا حدّ لها ولا نهاية، تنافسوا في الجبن كما لم يفعل أحد، وباعوا ما لا يجوز بيعه بأبخس الأثمان، وتفنّنوا في صياغة المبرّرات لما يفعلون تحت مسمّيات الأمن الوطني والحدود القُطرية وأولوية الداخل على قضيّة التحرّر في فلسطين، كلمة حقّ أريد بها باطل.
اخترعوا لنا مصطلحات مفخّمة ليوهمونا أنّ النضال متواصل، فهذه جبهة للصمود والتصدّي وذاك محور للممانعة وفي الواقع لا توجد جباه غير جباههم المُفلطحة ولا صمود إلّا في وجه مطالب الانعتاق التي ترفعها شعوبهم ولا تصدّي إلا لجحافل المعارضين الذين دهستهم مدرّعاتهم الصدئة من حماة إلى نهر البارد إلى معبر رفح على حدود دولة المعزّ فكانت لنا نكبة ونكسة وأيلول أسودا وحزيران مخزيا، لا ممانعة إلاّ بعض من خطب جوفاء يفاخر فيها حاكم منبطح في المغرب على نظيره الأكثر انبطاحا في المشرق، فهل أتى عُبّاد الفلس والطين ما حلً ببني أبيهم في فلسطين؟
ليس ذا ما يقلقني كمواطن عربي لم يأمل يوما في عزّ يأتيه من سلطان ذليل، إن ما يقضً مضجعي هو أن أرى إخواني وقد انطلت عليهم الخدع وجرّهم العصف الذهني الممارس إلى وجهات نظر تكاد تكون مبرّرات للاستسلام والخضوع والرضا بالواقع المأساوي، أوشك بعضنا على تكريس القابلية للاستعمار كمبدأ قائم بذاته، حتى قال رئيس في دولة عربية أنّنا لسنا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين معرّضا بتهارش الفتحاوي مع الحمساوي، إي وربّي قالها ليبرّئ ذاته وتلقّفها منه الناس بلا وعي، كلمة لم يلق لها المستمعون بالا لكنّ قائلها يدرك وقعها على النّفوس ولو بعد حين، عبارة ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب.
يقول الفلسطيني "خاننا العرب" ويقول العربي: "باع الفلسطيني أرضه"، ويبتسم الصهيوني من خلف السّتار بعد أن أوقع بين الإخوة فتنازعوا ففشلوا وذهبت ريحهم، ولو جمعوا كلمتهم على الجهاد لكان أفضل ولو مسكوا ألسنتهم ومنحوا الرشاش حقّ النطق باسمهم لكان خيرا لهم.
سبعون عاما جرّبنا خلالها كلّ أساليب التفاوض والمساومة فكانت وبالا علينا، ومع ذلك لا يزال هناك من يؤمن بالسلام ويتغنّى بحلم العودة، عودة يريدها بقرار يمضيه عدوّه في تل أبيب مخالفا بذلك سنن الكون ودروس التاريخ، أما سمعوا قول نزار قبل سنين معاتبا السيدة فيروز بعد أن غنّت " الآن الآن وليس غدا أجراس العودة فلتقرع":
عفوا فيروز أجراس العودة لن تقرع
فالعودة تحتاج إلى مدفع
والمدفع......
وأترك لكم فرصة البحث عن تكملة القصيدة على أمل ألّا تصبح القابلية للاستعمار مبدأ يدافع عنه صاحب الأرض مقتديا بحاكمه.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة