لعبة الهاتف
لعبة الهاتف
آه.. تنهدت سلوى للمرة العاشرة منذ خروج أمّها من البيت وعادت تقلّب نظرها في أرجاء الغرفة..
فإذا به يقع مصادفة.. أو هكذا خيّل لها.. على جهاز الهاتف القابع في زاويتها..
تذكّرت صديقتها نوال.. حيث بثّت لها في المدرسة الضجر الذي تشعر به وهي تمضي جلَ أمسياتها وحيدة أو شبه وحيدة، فقالت لها نوال:
- أنصحك نصيحة والكلام بيننا؟
- سلوى: لا تخافي، الكلام بيننا.
- نوال: الهاتف.. افعلي مثلي.. إني كلّما شعرت بالضجر أو بالرغبة في الحديث مع أحد أمسكت بالهاتف وكبست على أزراره بشكل عشوائي.
- ثم ماذا؟
- اكتشفت أن الأمر مسلٍ جداً.. يومها ردّت فتاة في مثل سنّي، سألتها إن كانت مشغولة أو لا، وأخبرتها أني في حالة ضجر وأحبّ أن أتعرّف عليها، وقد كان ذلك.
- ثم أصبحتما صديقتين؟
- نعم وأصبح عندي أصدقاء كثر غيرها.
- ألم يغضب أحدهم حين تخبريه أنك تريدين التسلية؟
ضحكت حينها وقالت بلا مبالاة:
- نعم كثيراً.. كم شتمت من قبل بعضهم، وكم أغلق الخط في وجهي..
- فسألتها باستغراب... أولم تغضبي؟
- لماذا أغضب؟ أولاً لهم الحق في أن يرحِبوا بي أو يغضبوا مني، وثانياً إنهم لا يعرفون من أنا، وهذا هو المهم..
تذكرت سلوى كل ذلك وهي ما زالت تنظر نحو جهاز الهاتف، وتذكّرت أنها سألتها إذا كان أصدقاؤها كلّهم فتيات أم أنها تكلّم الشبان أيضاً؟
فأجابتها بصراحة وبعد تردد قصير:
- في البداية لم أكن أتكلم إلا إذا كان المتكلم امرأة؛ ولكن فيما بعد تكلمت مع الكثير من الشبان، وكان الأمر ممتعاً للغاية، فإنك تكلميهم دون إساءة لسمعتك..
وجلست إلى جانب الهاتف وأخذت تنظر إليه.
لقد جرّبت البارحة هذه اللعبة وردّت عليها امرأة سليطة اللسان فأغلقت السماعة بسرعة وهي خائفة، ولكنها لن تخاف اليوم..
أمسكت بسماعة الهاتف وإذ بوجه صديقتها هبة الهادئ يبرز أمامها فجأة وهي بحجابها الوقور تنظر إليها بعتب، وسمعت صوتها تقول:
· إن كنت لا تخافين حساب الله، أفلا تخافين أن يرفع ستره عنك؟!
هذه الجملة التي قالتها لها عندما بثّت لها ما شكته لنوال من شعورها بالوحدة والضجر، فاقترحت عليها هبة في حينها أن تملأ فراغها بالمطالعة وسماع الأشرطة الإسلامية من دروس نافعة وأناشيد هادفة، ولكنها احتجت بأنها لا تصدّق متى تنتهي من قراءة دروسها، ثم قالت وهي تتكلّف الضحك:
· والله إني أحياناً لأفكّر في التسلّي بالهاتف فأكلّم من أعرف ومن لا أعرف..
ثم عقّبت لمّا رأت تغيّر وجه صديقتها:
· وماذا في ذلك؟ إذا كان أحدٌ لا يعرف هويّتي..؟
كل هذه الحوادث أخذت تجول في شريط ذاكرتها، ثم حزمت أمرها وكبست أزرار الهاتف.. جاءها صوت شاب فتلاشت صورة صاحبتها بسرعة..
- آلو..
خافت كثيراً وشعرت أن أنفاسها تكاد تنقطع، ولكنّ هاتفاً ما كان يهتف بها:"لا تخافي.. لا شرّ في التجربة".. ثم جاءها صوت الشاب مرة أخرى:
- آلو..
ردّت بصوت مرتجف:
- آلو..
- أهلاً...
أخذ قلبها يرتعش، وترددت في إغلاق الخط لكن الهاتف عاد يهتف بها:"أين الضرر في التجربة؟ إنه لا يعرفك.. جرّبي".
قالت سلوى:
- مرحباً.
- أهلاً.
- كيف حالك؟
- بخير.. من يتكلم؟
عادت لضبط أعصابها والهاتف يهتف بها:"اعرضي صداقتك عليه، قولي له ما شئت.. إنها فرصتك".
- أنا.. إني.. إنك لا تعرفني، ولكني أحبّ أن نتعارف.
فتغير صوت الشاب وقال لها:
- مرحّباً... أهلاً وسهلاً...
ولم تمض أيامٌ حتى كانت قد تعرّفت على كثير من الشبّان، وأخذت تتعرف على فنون الكذب والتملّق.. تعلّمت كيف تسمّي نفسها بأسماء عديدة، فيومٌ هي لينا ويوم هي رشا ويوم عبير وأمل وربى..، وأصبحت خبيرة بأصوات الشبّان فكانت بمجرد سماع الصوت تقدّر لصاحبه أشاب هو أم كهل، مراهق أم في العشرينيات من عمره.. تعلّمت كيف تجترئ على الكلام معهم حتى أثناء وجود والديها في البيت، فتأخذ جهاز الهاتف إلى غرفتها مستأذنة منهما متذرعة بأنها تريد التكلّم مع صديقتها..
أصبحت متعتها في سماع عبارات الإعجاب، وإذا وصل الأمر بأحد السذَج إلى حد التعلّق باتصالها وانتظاره بفارغ الصبر تكون قد بلغت غاية مرامها وذروة سعادتها..
وبعد أشهر من هذه الحادثة ضربت أزرار الهاتف كعادتها للتعرف على شاب جديد، وأخيراً جاءها صوت شاب..
أخذت سلوى تسرد حديثها الذي اعتادته متّبعة أسلوب التغنّج والدلال الذي اكتسبته وتدرّبت عليه، ولكنها كانت تشعر أنها تعرف صوت هذا الشاب.. نعم.. لا بد أنها تعرفه..
تساءلت في نفسها هل اتّصلت به من قبل..؟.. ولكن، ما هي إلا دقائق حتى قطعت الاتصال مرتعدة: إنه هو.. إنه أخوها ماجد.. يا إلهي.. كيف يعقل أن لا أنتبه إلى الرقم الذي ضربت..
لقد تابع حديثه معي ليتأكد من صوتي.. مؤكد أنه قد عرفني.. يا ربّاه..
وبعد ساعة من الزمن دخلت أمها وبصحبتها أخوها ماجد على غير موعد عودته وملامح أمها تنبئ بما أخبرها إياه ماجد..
قالت لها أمها بغضب شديد:
· لقد جاء أخوك ماجد من عند بيت خالك وأخبرني.. أخذت أمها تعنفها وصوتها يعلو ويعلو بينما كان في أذن سلوى ينخفض ويتلاشى وكان آخر شيء تعيه عين سلوى هو عيني أخيها اللتين يتطاير منهما الشرر ثم تلاشى كل ما حولها من حواسها تدريجياً ولم تعد ترى أو تسمع إلا وجه صديقتها هبة وصوتها وهي تقول:
· إن كنت لا تخافين حساب الله، أفلا تخافين أن يرفع ستره عنك؟...............
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن