وانكشفت وجوه الدعاة
تُتَناقَلُ الأخبارُ في بلادِنا كأسرَعِ ما يكون، تُكشَفُ الوجوهُ تبَعاً حتى تظنَّ أن الستر لم يعُد خياراً إلّا ما ندر وما لطفَ اللهُ به. تتزايدُ أعداد المشاهدين للمقاطِع المرئية كلّما كان عنوانها يتضمّن "فضيحة فلان" أو "حقيقة علّان". نكادُ في الآونةِ الأخيرةِ ألّا نفتح موقعاً من مواقع التواصل الاجتماعي إلّا ونجدُ تصريحاً جديداً لداعية بما يسوؤنا ويضيّقُ صدرونا، ثمَّ فجأةً نسمع ونقرأ عن خبرِ قضايا أخلاقية ترفع على داعية آخر عربياً كان أو غيره، ثم نلتقي بأشخاص تعاملوا مع أحد المشايخ في عملٍ أو مشروع فيُطلعونا على ما قام به هذا "الشيخ" من استغلالٍ أو أكل مال، ثم تكون لكلٍّ منّا تجربته الخاصة التي رأى في كذب داعيةً، أو وجد فيه اختلافَ مبادئه، أو عايشَ ما لا يليقُ به. وبين هذا وذاك نقرأ يتبادل الناس مقولهم بأن "انكشفت وجوه الدعاة".
يحارُ المرؤ في أمره، أتراه يجدُ لنفسه منهجاً خاصاً بعيداً عن كل هذه الأسماء، أم أنّه يقتنع بكلام النّاس بأنّ هذه الوجوه ما كانت إلّا لعبةً وسياسة وليلزم كلٌّ فكره، أم يبقى مصرّاً على أنّ لحوم العلماء مسمومة فلنتوقف عن الحديث عنها، أم يحذّر نفسه والناس من حوله مِن الوقوع في هذه الدوامة، أم ماذا.
ربما نستاء ويضيق صدرنا بكثير مما نسمع، لكننا نعلمُ يقيناً أن جزءاً كبيراً مما يصلنا لا يحمل الوجه الكاملَ من الحقيقة، إذ أنّ بعضَ الكلام مُبالغ في النقل عنهم، وبعضه افتراء، وبعضه صحيح جداً، وبعضُ ما ظهر أخفُ مما بطن، وبعضه غير ذلك. وفي وسط ذلك كلّه تبقى آية كريمةٌ ترنّ في أذني ولكأنّي لا اسمع غيرها هذه الأيام: "وكلُّهُم آتيه يومَ القيامة فرداً"، هذا القرآن الذي يبني بداخلك شعور الجماعة والانتماء وعالمية الحديث والدعوة، هو ذاته الذي يريدُ منكَ أن تستذكر هذه المعلومة المهمّة، بأنَك تأتي إلى الله يوم القيامة فرداً، وتُسأل عن أعمالكَ أنتَ لا عن أعمالِ الناس من حولك.
ما يحدثُ في مجتمعاتنا والكثير من الدعوات الإسلامية أن الفرد لا يتفاعل في الجماعة فحسب بل إنّه أحياناً يذوبُ حتى يفقد شخصيته وذاته للدرجة التي يكاد أن ينسى فيها بأن له صحائفه الخاصة به بين يدي الله -عز وجل-، فإذا لاقى من جماعةٍ سوءاً أو أمراً لا يرضاه فهو في الأغلب إمّا أن يسكت عليه سكوتاً سلبياً يجعل الخطأ يزداد ويستمر، أو أنّه يُصاب بردّة فعلٍ تبعده عن الدين وكأنّ دينه ارتبط بالمجموعة التي انتمى إليها فقط لا غير. ما يحدث في مجتمعاتنا أننا نصرّ على اتباع الأشخاص لا الأفكار، ونصرّ على أن يكونَ "فلان" قدوتنا ومحطّ ذكرنا وكثرة استماعنا، لذا تكون صدمتنا بالأشخاص ذات عمقٍ في أنفسنا.
في زمنٍ كالذي نعيش فيه اليوم مِن غيابٍ "أو تغييبٍ" للصوت المتوازن حقاً في الدعوة، والذي يحافظ على قيمه ومبادئه ويتكلّم من علمٍ راسخٍ واضح دونَ تمييعٍ، ويخاطب في ذات الوقت الشباب بلغتهم ولهجتهم وواقعهم، لا نريدُ أن نُحدِثَ ردّة فعلٍ جماعيةٍ تهزأ من كلّ من يتحدث في الدين وعنه، ولا أن نزيد الفجوة ما بين الأجيال أو ما بين الشباب والكبار "إن صحّ التعبير"، لكننا نريد أن ندرك بأنّه سواء أكان ما يُتناقل صحيحاً أم مُبالغاً أم غيره فالمهمة علينا جماعية بأن نبقى مُستذكرين بعض نقاط، ومن أبرزها: 1- ما تُرِكَ للأجيال كلها ليتمسكوا به حتى لا يضلّوا أبداً هو القرآن الكريم والسنة النبوية، فهما فقط ما يُشكّلان للمؤمن "مرجعية دينية" أما عدا ذلك من اجتهادات وآراء فهو محطُّ تنقية وتفكيرٍ ونقاشٍ وتغيير وفقاً للزمان والمكان.
2- نحن نستمع للأشخاص ونبحث عن ضالّتنا في حديثهم، لكننا لا نقدّس أحداً أبداً، فمهما أبهركَ من منطق الشخص فهو قيد إنسانيته التي قد يصيب فيها وقد يُخطئ، وهو عرضةً لكلِّ فتنة أو غيرها، إذ لا يجب لأيٍّ مِنّا أن ينظر لآدميٍّ على أنّه محطُّ تنزيه معفيٍّ من كلّ عيب.
3- كثرة التضخيم وصناعة الهالات تُحدِثُ صدمةً أكبر، فنحن نظلم أنفسنا ونظلم الشباب الذين خرجوا عبر الإعلام للحديث عن الله ودينه عندما نصنع منهم أعلاماً ومنارات تفوق علمهم واختصاصاتهم وخبراتهم، وعندما نظرنا للداعية على أنّه كاملٌ شامل يملك أن يحدثنا في كلِّ مناحي الحياة الزوجية والسياسية والنفسية والعلمية وكيفية اختيار التخصص وغيره وغيره، وهو وإن كان مطلعاً على هذه المجالات إلّا أنّه ولا بدّ متخصصاً بواحدةٍ أكثر من غيرها وهي مصبّ خبرته وكلامه.
4- يخبرنا القرآن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبَسَ وعاتبه الله، وتخبرنا السيرة النبوية أنه -صلى الله عليه وسلّم- طلعت عليهم الشمس ذات يومٍ بعدَ معركةٍ فما صلّوا الفجر فتعلمنا فقه القضاء، وتنقل لنا الأحاديث أن الصحابة أصابوا وأخطؤوا، ومن ثمّ نصرّ على معاملة المتديّن على أنّه ملاكٌ منزّل عليه ألّا يخطئ أبداً، ومن هذا المفهوم يبدأ اضطراب الداعية والمدعوّ، إذ يصبح الخطأ فضيحة لأننا اعتدنا أن هذا الخطأ انتقاص لا يصحّ، فباتت أخطاءنا تتكاثر في الخفية والظلمة حتى تخرج في العلن فضيحةً حقاً، ولذلك نحتاج مِن كلّ مَن له يدٌ في تربية الأجيال، ولكلّ مَن يجتهد تربية نفسه أن يتذكَّرَ ويُذَكِّر بأننا في الدرب إلى الله لا نستهين بالذنب ولا نستسهل الخطأ لكننا ندرك أننا ما دمنا نعبدُ إلهاً يغفر فباب التوبة مفتوحٌ على مصراعيه، يتوب الله به على عباده أفراداً وجماعات، وتبقى حقوق العباد تنتظر منّا جرأة الاعتذار وردّ الحقوق، فإن فعلنا ذلك فقد أصلحنا في بشريتنا ما أراد الله لنا أن نصلح.
لا تقنعكم وسائل التواصل الاجتماعي بأن لا خير في النّاس وأنه انتهى عصر أهل الله والمشايخ والدعاة، فالحياة على أرض الواقع تحوي كثيراً منهم ربما لا يعرفهم الإعلام ولم يبحثوا عن الشهرة يوماً، وقبل ذلك كلّه فإن انكشفت وجوه القوم أم سُتِرَت فعبرةُ كلِّ امرئٍ في وجهه وروحه وشخصه، ذاتك التي بين جنبيك هي ما ستسأل عنها وما ستلقى الناس والله بها، فليلزم كلُّ منّا خاصة نفسه عنايةً ورشداً وسؤالاً لله بالستر والفهم لها.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة