كاتبة
الشكوى لله
سمعت وقع أقدامه ترقى الدرج متجهاً إلى غرفته, لقد عاد أخيراً من صلاة الفجر.. ارتسمت بسمة ساخرة على شفتي فاطمة !! هه .. صلاة الفجر !!
تقلبت يمنة ويسرة, حركت الوسادة, مدت اللحاف .. ولا فائدة, فما إلى النوم من سبيل، والأفكار موّارة في الذهن المكدود المتعب ..
وهتفت : رباه .. أما من خلاص ؟؟ وطفرت دمعتان من عينيها, وأحست لسانها جافاً كقطعة خشب في حلقها, فقامت تسعى بهدوء نحو إبريق الماء تبلل ريقها بجرعة منه .
ارتفع صوت أمها المتعبة تطلب كأس ماء, إنها ما زالت يقظة..ومن أين لها النوم وهموم الدنيا تصب فوق رأسها ليلاً فتمنعها منه ؟؟ والأمراض تتناوش جسدها فتشعله ناراً وأرقاً ؟؟..
لك الله يا أم .. كم قاسيت وتقاسين, لو كانت القلوب حجراً لذابت لآهاتك, ولكن .. الشكوى لله وحده.
عادت بكوب الماء إلى أمها, رفعت رأسها برفق وساعدتها لتتمكن من ابتلاع قطراته, وارتفع الصوت المتعب : الحمد لله .. الله يرضى عليك وعلى إخوتك ..
وانطلقت دعواتها المعهودة بالخير لأولادها جميعاً على حد سواء .. إنه قلب الأم الذي لا يعرف الحقد أو الغل.. ولا يفرق بين بار وعاق, فكلهم أبناؤها, ولعل العاق أحوج إلى الدعاء .
ليتك تسمع يا إبراهيم..
ليتك تسمع يا أخي دعاءها لك في جوف الظلام بين يدي الله .. حين ترقد الأجساد وتنام الأعين, لعلك تدرك مدى تقصيرك في حقها .
وعادت الدموع إلى عينيها من جديد, وهي تذكر موعد أمها لدى الطبيب, والذي تأجل ثلاث مرات لأنه ما من واحد من ولديها يصطحبها إليه !! فكل لاهٍ بنفسه .
أحمد الأصغر يواصل الليل بالنهار لهواً ونوماً, فمتى يأخذها ؟؟ لقد كان نعم الابن حتى تعرف على شلة من رفاق السوء, فترك عمله بحجة البحث عن الأفضل, وها قد مر عامان ولا عمل له.. مصروفه منها, وإن رفضت إعطاؤه لجأ إلى الوالدة .. والعمر يتسرب منه يوماً بعد يوم .
وإبراهيم البكر, جاوز الأربعين دون زوجة أو ولد, لا يغادر المسجد حتى يعود إليه, يصلي أوقاته الخمسة ويقضي جل وقته فيه, فإن احتاجوه في أمر ما, تشاغل عنهم قائلاً : عندكم أحمد.. أنا مشغول ..!!
مشغول بم يا أخي ؟ ولا زوجة ولا ولد ؟
مشغول بمَ ونحن أحوج ما نكون إليك ؟
كم تمنت لو تزوج علّه يعتاد حمل المسؤولية, كم رجته أمها أن يقر عينها بحفيد يحمل اسم جده ويملأ البيت حياة وبهجة .. ولا فائدة .!!
خوفه من المسؤولية منعه من الزواج طيلة هذه السنين, وخوفه من المسؤولية جعله يردّ خاطبيها أيضاً طيلة هذه السنين, أفيحمل الآن مسؤولية أمه وأخته ؟؟
كم فرحت لما اعتاد المسجد, وعللت نفسها بالآمال.. لكن شيئاً فيه لم يتغير, صلاته فقط صارت خلف الإمام في الأوقات الخمس, أما أمه .. أما حِمل البيت الذي أرهق كاهلها .. فهو عن كل ذلك مشغول، عازف، لا مبالٍ .
تقلبت الأم في فراشها, فأرهفت فاطمة سمعها لعلّ أمها تريد شيئاً آخر, لكن غطيط الأم ما لبث أن ارتفع.. اللهم لك الحمد, هاهي ذي تنام أخيراً .
لحظات وتشرق الشمس ويحين موعد المدرسة, وهناك رغم تعبها تنسى همومها وسط طالباتها وزميلاتها, وتتمنى لو طال الدوام إلى الأبد, ولكن لا بد من عودة.. عودة إلى الدار الكئيبة الموحشة, والأم المريضة المسكينة, والأخ العاق..
ولا بد من مواصلة الحياة, فهذه مشيئة الله ..
وستبقى كما هي حتى يأذن الله بالتغيير .
المصدر : صفحة حروف تلوّن الحياة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة