هل السمنة مرض نفسي؟
إن معرفتنا بالتطورات الأخيرة في نسب السمنة عالميا خلال السنوات الخمسين الأخيرة تؤكد أن هناك أشبه ما يكون بطفرة في حالات السمنة، تلك التي ينظر إليها اليوم كعامل رئيس في مشكلات عدة تبدأ بالسكري من النوع الثاني، مرورا بعلم الأمراض العضلية وأمراض الهيكل العظمي، وصولا إلى ارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب.
ورغم وجود ترجيح عبر دراسات التوائم يقول إن 40% من الأفراد لديهم قابلية للإصابة بالسمنة إذا كان أحد الأبوين يعاني منها، وتتضاعف إلى 80% مع بدانة كلا الأبوين، لكن الدليل الجيني رغم فاعليته لا يفسر بوضوح سبب انتشار الوباء في السنوات الخمسين الأخيرة، هنا يجدر بنا القول إن هناك أسباب عدّة تتعلق بالسمنة، بعض تلك الأسباب يرتبط بتوجهات المجتمعات معاصرة، وتغيرات البيئات السكّانية.
الجسم الرافض لفقد الوزن
كما وضحنا في الجزء الأول لهذا التقرير، حوّل الإنسان جهده نحو الآلة، فلو حاولنا مقارنة تغيرات استخدام السعرات الحرارية بين عامي 1950 و 2000 سوف نجد -مثلا- أن الذهاب للتسوق مشيا على الأقدام، والذي يستهلك بدوره 2400 سعر حراري، قد أصبح بالسيارة -275 سعرا حراريا، وأن غسيل الملابس باليد كان يستهلك 1500 سعر حراري عوضت عنه الغسّالة الأوتوماتيكية لنبذل فقط 270 سعرا حراريا، وبهذا النمط حدثت تغيرات جوهرية في شتى جوانب الحياة، مما تسبب بالنهاية في أن معادلة بذل/استهلاك الطاقة قد مالت كثيرا ناحية التخزين.
أضف لذلك أن هناك نقصا ملحوظا في الإقبال على المشاركة في الأنشطة الرياضية بفصول المدارس، كما ارتفعت أعداد المواد الغذائية سابقة التجهيز كثيفة الطاقة سريعة التحضير في الأسواق من 5000 مادة سنة 1980 إلى 35000 مادة غذائية سنة 2000، مع ارتفاع ملحوظ في أعداد متناولي الغذاء خارج المنزل، إن التغير في عادات البشر، أدى إلى إعادة هيكلة في المجتمع، مما ساهم في اهتزاز ميزان الآلة الأيضية خاصتهم، وتسبب ذلك ربما في وباء السمنة.
لهذا السبب يمكن القول إن الأدلة التي تدعم دور النشاط البدني في تعزيز الصحة والوقاية الإيجابية من الأمراض مقبولة جدا، إن مشكلة الخمول تختلف بشكل جذري عن الجوع، فحينما تتوقف عن الطعام يدفعك جسمك -بإشارة بيولوجية (الجوع)- إلى العودة للطعام مرة أخرى، أما الخمول فهو عادة سهلة نسبيا لأن جسدك رغم احتياجه للنشاط لكنه لا يُرسل لك بإشارات بيولوجية تمنعك عنه، ومع تطور الآليات الحياتية التي تدفعك للخمول -كما أشرنا في مثال السيارة وغسّالة الملابس- فإنه من المحتمل أن تقع ضحية له.
في الحقيقة نجد أن تأثير الخمول يتضح بشكل جلي في نقطتين، الأولى أن الأفراد الأكثر خمولا لا تنخفض لديهم معدلات استهلاك الطاقة في مقابل انخفاض معدلات فقدها -بالنشاط- مما يعني ارتفاع حجم الهوة في ميزان الاستهلاك/البذل، والثانية أن الشهية في الأفراد العاديين تكون منتظمة بدرجة أكبر من الأفراد الأكثر ميلا للخمول، لنصل في النهاية لنتيجة غاية في الأهمية: وهي أن النشاط يرفع من حساسية إشارات الشبع.
كما تلاحظ، فإن المشكلة إذن هي ظهور حالة متطورة جدلية تخدم زيادة الوزن، فأنت تزداد خمولا، فيزداد استهلاكك للطاقة في مقابل فقدك لها، فتضطرب شهيتك، مما يزيد من معدل الخمول، ثم الاستهلاك، ثم الخمول مرة أخرى... وهكذا، يظهر تقريرنا بشكل متتالي أسباب تغذي بعضها البعض وتدفع ببعضها البعض ناحية الزيادة في الوزن، حتى أن دماغك هو الآخر يساعد في تلك الكارثة، حيث يمكن إرجاع بعض المشكلات المتعلقة بالسمنة لأصول تطورية، فالبشر قبل آلاف السنين -كما ذكرنا في الجزء الأول من هذا التقرير- قد طوّروا أجساما تحافظ على الوزن الزائد قدر الإمكان من أجل استهلاك تلك الطاقة في حالات المجاعات، والتي تكررت كثيرا في العصور القديمة.
هنا يهتم بالسيطرة على أيض الطاقة منطقة من المخ تدعى المهاد (Thalamus)، وتتلقى تلك المنطقة الإشارات بالجوع والشبع من الأمعاء والأنسجة الدهنية في الجسم، وهي تعمل دائما على الحفاظ على وزن الجسم كما هو، وحتى بعد فقدان بعض الوزن قد يضطر الشخص إلى الاستمرار في ذلك النمط من الحياة لأن المهاد لا يتوقف عن محاولاته لرفع وزن الجسم مرة أخرى لفترة طويلة، لذلك من المهم هنا أن نستغل تلك الفرصة لتوضيح أن الحميات الغذائية السليمة ليست ابنة شهر أو شهرين، فهي أقرب ما يكون لنمط حياة، وهذا أمر تطرقنا -وسوف نتطرق- له في أكثر من موضع.
ربما لهذا السبب تستغل دايان فاينجود أستاذ قسم فيسيولوجيا الطب الحيوي وعلم الحركة من جامعة سيمون فريزر الفصل السابع من الكتاب بالكامل لقص حكايتها الخاصة مع السمنة، خلال الحكاية نلاحظ كم الارتدادات الكثيف الذي تعرضت له على مدى سنوات طويلة من أجل الحصول على وزن مستقر بعد فقد 32 كيلوجراما، لكننا نتعلم من ذلك أنه ربما لا توجد حمية واحدة مناسبة، هناك العديد من آليات التعامل مع السمنة والتي يمكن اتباعها إن فشلت آليات أخرى، هنا ربما نحتاج أن نتعلم القليل عن بعض الأساطير الشهيرة في عالم السمنة، والتي ربما نتجت عن مشكلات عدم ثباتنا على وزن محدد.
أساطير السمنة
تعد الأسطورة الأشهر هنا هي "وزني يزداد بمجرد النظر للطعام"، وتعني اعتقادك أن هناك آخرين يفقدون أوزانهم بسرعة بينما تفقد وزنك ببطء شديد، ترتبط تلك الأسطورة بمشكلتين رئيستين، الأولى تتعلق بما نظنه عن طعامنا، في دراسة بمعهد روويت تم إيداع مجموعة من الأفراد -ذكورا وإناثا- في فندق ما مع مراقبة نظامهم الغذائي اليومي دون أن يعرفوا، ثم سؤالهم عن حجم استهلاكهم بعد عدة أيام، هنا سوف يقدم الأفراد بيانات أقل -في كل مرة- مما قاسه القائمون على الاختبار، بمعنى أننا نظن أننا نأكل أقل مما نأكل بالفعل.
تتعلق المشكلة الأخرى بمعدلات بذلنا للجهد، فنحن غالبا ما نُقارن أنفسنا مع آخرين يبذلون جهدا أكثر منّا في نظام حياتهم اليومي، وهي أمور ليس من السهل ملاحظتها -كما أوضحنا في بداية التقرير أثناء حالات التسوق مشيا على الأقدام أو غسل الملابس باليدين إلخ-، هنا يظن الشخص أن جسمه غير قابل لفقد الوزن بينما آخرين يمكنهم فعل ذلك بسهولة، إلا أن ذلك وهم، القاعدة بسيطة: سوف يكسب الجميع الوزن إذا كان استهلاكهم للطاقة أكبر من فقدهم لها.
ترتبط تلك الأسطورة بأخرى تقول إن "معدل الحرق لديّ بطيء"، لكنها هي الأخرى ذات علاقة بحسابات خاطئة يقوم بها القائل، في الحقيقة لا يختلف معدل الحرق بين الأفراد إذا تمت معالجته بالنسبة لحجم ووزن الجسم، كما ترى فإن معظم الأساطير في عالم السمنة يتم اختراعها لتبرير الوضع الحالي، خذ مثلا أسطورة "أنا لست سمينا ولكن عظامي كبيرة" أو القول إن "هذا هو وزني الطبيعي"، كلاهما يهدف إلى جعلك تظن أنك مختلف عن بقية البشر، لك معدلات أيضية مختلفة، وتركيبات جسدية، وعمليات فيسيولوجية مختلفة، رغم ذلك تكون الحقيقة الصادمة دائما هي أنك -كغيرك- تبذل القليل من الجهد وتستهلك الكثير من الطاقة وتخزنها، لتمثل تلك المقولات حلقة في سلسلة التبريرات التي يجب أن تقف.
دعنا الآن ننتقل إلى أسطورة أخيرة غاية في الأهمية، وهي أسطورة فقدان الوزن السريع والقاسي، كم تنتشر تلك الوصفات لنظام غذائي قاس يتحدث عن فقدان 10 كيلوجرامات في الشهر مثلا، هنا يجب القول إنه بجانب المشكلات الصحية التي تواجه فقدان الوزن السريع والمكثف، فإنه من العادة أن يشعر الشخص بتعكر حاد في المزاج مع إرهاق كبير، لذلك يفضل دائما أن يعمل الشخص على خفض وزنه بمعدلات منخفضة لتفادي كل ذلك، فازدياد الوزن أمر يحدث ببطء، لذلك من الطبيعي أن يكون التخلص منه ببطء أيضا، ولا يوجد ما يمكن أن ندعوه "حلا سريعا" هنا، ولكن -كما كررنا أكثر من مرة- فقدان الوزن هو نمط حياة وليس خطة قصيرة الأمد.
في تلك النقطة يتدخل ماريا ماكويج لإخبارنا أن عملية علاج السمنة هي حالة خاصة تقتضي درجة عالية من التفاعل بين المريض واختصاصي التغذية، بل إن بذل الجهد من قبل المريض ربما يتساوى مع بذل الجهد من قبل معالجه، فبجانب الدور الذي يلعبه المعالج في توضيح أساطير السمنة للمريض، ورفع درجة إدراكه بجسمه، وبحركات الآلة الأيضية فيه، وفهم كامل جذور مشكلته من أجل دفعه لتحقيق الهدف المرجو منه، فهو أيضا يلعب دورا تواصليا مهما مع المريض من أجل الدعم، وحثه على مشاركة اختصاصي التغذية بكامل المعلومات المطلوبة.
هل السمنة حالة نفسية؟
حتى الآن تمكنّا من رصد عدة أسباب اجتماعية، طبّية، وتطورية ذات علاقة بمشكلات السمنة، لكن بقي عامل آخر مهم يجب وضعه في الاعتبار حينما نحاول فهم ذلك الوباء، وهو العامل النفسي، ولوجهة النظر تلك تاريخ طويل بدأ من فرويد الذي ربط التعلق الفموي عند البدناء بنوع من الولع نتيجة للحرمان العاطفي خاصة أنه في نظرية فرويد يقع كل من الجوع والرغبة الجنسية على نفس المسافة.
تطور الأمر ليصبح تصورا في الستّينيات أسس له هيلد بروخ يقول إن مشكلة السمنة تتعلق بأن المرضى لا يعرفون متى يكونون جياعا، ويحدث ذلك لأن الأم في الطفولة لم تنتبه للأوقات التي يجوع فيها أطفالها ولكنها قررت اطعامهم وقتما تشاء فتسبب ذلك في الرفع من شأن استجابتهم للعوامل الخارجية -الطعام أينما وجد وبأشكاله المتنوعة الجذّابة- بشكل أكبر من العوامل الداخلية، المشاعر الخاصة به كالجوع الحقيقي.
يتصور بعض الباحثين أن هناك كذلك أسباب للسمنة متعلقة بمحاكاة الطفل -في فترة مبكرة من حياته-لأبويه في نمط حياتهم، فالأطفال كما نعلم يتعلمون عبر تقليد أقرب الناس لهم في كل شيء تقريبا، هنا يمكن أن يمر سلوك كالأكل العشوائي ليصبح أساسيا في حياته فيما بعد، لكن في النهاية -حاليا- فقد تخلّى معظم الباحثين عن فكرة وجود نظرية شاملة تعطي سببا واحدا ذا علاقة بالسمنة، حيث تجتمع عدة عوامل معقدة معا لإعطاء تلك الحالة كنتيجة، خاصة أن أقوى الأدلة الآن ترتبط بعوامل وراثية، لكن للبيئة الغذائية المحيطة بالمريض، والظرف الاجتماعي، والثقافة، والوراثة، دورا كبيرا في ذلك.
ورغم تلك الحالة من الضبابية فإن هناك متلازمتين شهيرتين ارتبطا بالأشخاص البدناء بنسب كبيرة، الأولى هي متلازمة الأكل الشره، وهي نوبات من الشراهة عند تناول الطعام مرتين في الأسبوع لمدة ستة أشهر، ونجدها في 30% من المصابين في بالسمنة وبنسبة 2% من كل عيّنة مجتمعية عشوائية، وتتعلق النظرية الأكثر رواجا في شرح ذلك الاضطراب بتأثير المشاعر السلبية على الأفراد فيلجأون للطعام لرفع الحالة المزاجية.
أما الثانية فهي متلازمة الأكل الليلي والتي ترتبط بظاهرتين أساسيتين، وهما أكل الكثير من الطعام بعد العشاء والاستيقاظ من النوم لتناول الطعام، وهي حالة تنتشر بنسبة 10% بين المصابين بالسمنة وبنسبة 1.5% في المجتمع بشكل عام، ويربطها الباحثون بسببين، أولهما ذو علاقة باضطراب في الهرمونات المسؤولة عن تنظيم الساعة البيولوجية والآخر -كالاضطراب السابق- متعلق باضطراب في المزاج، كما لاحظ الباحثون اضطرابا في هرمون البتين والذي يقمع الشهية أثناء النوم.
في كل الأحوال، تتفاعل العوامل النفسية مع عوامل أخرى اجتماعية ووراثية لتصنع لنا هذا الوباء المتفشي في 1.2 مليار شخص من تعداد العالم، لكننا نصل في النهاية إلى نقطة اتفاق واحدة، وهي أن العلاج الرئيس للسمنة يعتمد على تعديل نمط الحياة الخاص بالفرد والمجتمع ككل، بالطبع يمكن للعلاج بالعقاقير أو التدخل الجراحي أن يساعد، لكن هنا يظل تغيير نمط الحياة هو الحل الأكثر مناسبة، خاصة كمشروع قومي، وهو كذلك مجال البحث العلمي والاجتماعي الأكثر رواجا، وهو ربما ما نحتاج تكثيف العمل عليه هنا في الوطن العربي.
في النهاية، نعرف أن الطريق تجاه التخلّص من السمنة قد يكون طويلا ومرهقا، ونعرف أيضا أنه يبدأ من الوقاية، من معرفتنا بأجسامنا وطبيعة حرقها للوقود الخاص بها، لذلك تنصحنا فاينجود في آخر قصتها بشيء واحد مهم للغاية نود في الحقيقة أن ننهي به تقريرنا عن هذا الكتاب الممتع والذي ننصح الجميع بقراءته، تقول فاينجود: "لنتناول الطعام بعقلانية".
المصدر : الجزيرة نت
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن