هل نفقد 'بريستيجنا' إن تحدثنا بالعربية؟
بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية والذي صادف الثامن عشر من كانون الأول، لم يستحضرني سوى هذا الاقتباس "إن الرجل الذي لا يحب لغته الأم أسوأ من حيوان أو سمكة نتنة"، وهو اقتباس من البطل القومي الفلبيني خوسيه ريزال، الذي حارب الاحتلال الإسباني في بلاده برواية سُجن بسببها ثم أُعدم، ليكون ما حدث معه أحد مسببات الثورة الفلبينية التي انتصرت بطرد المحتل واستقلال الفلبين عام 1898، وللعلم، فقد كان ريزال يجيد التحدث بـ 10 لغات، ومع ذلك بقي يفضل لغته الأم.
لكل من تحسّس رأسه ظناً منه أنني قصدته باقتباسي، فعلى العكس، إنني أرى أنه لا يوجد بيننا كاره للغة العربية، فمؤخراً أصبحنا نطبع حروفها الجميلة على ملابسنا، ونحفر على الخشب وغيره عبارات منتقاة بعناية بخط عربي جذاب لنعلّقها كلوحات نفخر بها على جدران منازلنا، بل امتد الأمر لينتشر بشكل كبير في الحُلِيّ التي نتزيّن بها والهدايا التي نتبادلها، ولكن، لماذا لا أسمعها في أحاديثنا اليومية؟!
لعلّ علاقتنا بلغتنا الأم تشبه علاقة طالب مراهق بأمه، يحبها ولا يطيق فراقها لكنه يخجل من إظهارها لرفاقه أو لأساتذته. لماذا؟ سيتردد بالإجابة حتى لا يجرح مشاعرها، لكنه على الأغلب يراها غير مواكبة لمجتمعه الخارجي. المفارقة أننا مع لغتنا الأم لا نتردد ولا نخجل، بل نقولها بثقة مبنية على باطل "لغتنا جميلة الرسم صعبة النطق.. إنها غير مواكبة ولا تلائم واقعنا الحالي".
منصة عربية لا تنطق بالعربية!
نحن نحتاج إلى اللغة الإنجليزية وإلى لغات أخرى كسند لإكمال الحياة والاندماج بهذا العالم، ونحتاج وبقوة إلى لغتنا العربية كأساس يوحدنا ويمنحنا الرِفعة
قبل 5 سنوات حضرت في عمّان ملتقى للإعلاميين العرب بهدف الكتابة عنه، بدأ المتحدث العربي كلامه باللغة الإنجليزية لحضور جميعهم من العرب باستثناء 3 أو 4 أشخاص، مضت أول ربع ساعة بهدوء تام وصمت، مع أن المتحدث كان يسأل وينتظر إجابات من الحضور. تعجّب المتحدث والمسؤولون عن الملتقى من سبب هذا الصمت وعدم التفاعل. تجرّأ أحد الحضور وقال "يمكن لو تغيرت اللغة كان تغيرت الهمة!"، وهكذا تشجع كثير من الحضور وطالبوا بالتحدث باللغة العربية، خاصة أن الملتقى عربي والهدف منه إيجاد منصة عربية تعبّر عنا.
كان تبرير المتحدث بأنه يوجد ضيوف لا يتقنون العربية ويهمنا أن يتفاعلوا معنا، مضيفاً بتعجب "ثم من لا يتقن الإنجليزية في زماننا هذا؟!" أخبره أحد الحضور بأنه يتقن الإنجليزية ولغات أخرى لكنه يفخر بعربيته ويحترمها، وافقه آخر وتبرع بأن يقوم بترجمة فورية لغير العرب، ليفتح هذا العرض المغري مجال التساؤل عن سبب عدم تجهيز ترجمة فورية لغير المتحدثين بالعربية. ضاعت نصف ساعة من الوقت والحضور يؤكد على ضرورة التحدث بالعربية وبدفاع المسؤولين عن الملتقى بضرورة التحدث بالإنجليزية ليصل صوتنا لكل العالم!
هل هؤلاء الـ 3 أو 4 أشخاص هم كل العالم ونحن اللا شيء؟! لماذا لا نحترم ذواتنا ونقدّر هويتنا؟ هل حقاً يهدف هذا الملتقى العربي إلى جمعنا وتوحيد كلمتنا؟ إن كان حقاً يهدف لذلك فلماذا لا يعبّر عنا؟ خرجت من الملتقى دون إكماله وكانت هذه الأسئلة تسيطر عليّ. لم أهتم بما اتفقوا عليه بعد خروجي، فقد أيقنت أننا كعرب لن نتفق ما دامت هويتنا مهزوزة.
ملامح عربية بهوية غربية
المؤسف أن ما حدث في هذا المؤتمر يتكرر بشكل شبه يومي أمامي، وهذا مثال لا تزال ذكراه تشعرني بالخيبة: منذ فترة خسرت الكثير من وقتي وجهدي وجزءاً من زملائي في العمل وأنا أحارب من أجل عرض فكرة خاصة بمجال عملنا باللغة العربية، لغتنا العربية القادرة على التعبير عن كل ما في جعبتنا.
أردت عرضها لأشخاص جميعهم يتقنون العربية، بدون استثناء، لكن الزملاء رفضوا ذلك لاعتقادهم أن فكرتنا ستفقد رونقها وجمالها بسبب استخدام اللغة العربية! بعد عناء كبير فشلت محاولاتي بإحياء اللغة العربية مع زملائي العرب، فقد كانوا متوحشين للغاية بدفاعهم عن جمال وانسيابية الإنجليزية مقابل العربية، كما إنهم قالوها بصراحة بدت من وجهة نظري وقاحة، قالوا إن "بريستيجهم" سيبهت إن اعتمدوا العربية كلغة تعبير.
بعد فترة قابلت زميلاً فرنسياً، دخلت معه بنقاش بلغتي الإنجليزية البسيطة حول ازدياد أعداد اللاجئين العرب في الغرب وما قد يتبع هذا الحدث من استخدام واضح ومنتشر للغة العربية، وربما ظهورها في بعض المنشورات واللافتات حتى يتمكن اللاجئون من الاندماج. ليجبني باستنكار وبأسلوب وجدته متعالياً بعض الشيء لكنه مقنع "لا يوجد شخص مضطر لتغيير لغته من أجل زائر أو لاجئ.. هم من طلبوا القدوم لهذه البلاد، بالمقابل عليهم بذل بعض الجهد ليتحدثوا بلغة البلد التي تستضيفهم". تذكرت على الفور القائمين على ذلك الملتقى العربي والذين فكروا بالبعض وتجاهلوا الكل، وبزملائي العرب الذين خجلوا من التعبير بلغتهم، وبغيرهم الكثير.. لأتأكد على الفور أنه لن يعلو شأننا ولن نتوحّد إن بقينا على حالنا هذا.
نعم نحن نحتاج إلى اللغة الإنجليزية وإلى لغات أخرى، لكننا نحتاجها كسند لإكمال الحياة والاندماج في هذا العالم الذي أصبح قرية صغيرة، بالمقابل، نحن نحتاج وبقوة إلى لغتنا العربية كأساس يوحدنا ويمنحنا الرِفعة. أمر جميل أن نسبة كبيرة جداً منّا أصبحت تتقن اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات بطلاقة، فنحن بحاجة لذلك كي نندمج في عالم أصبح قرية صغيرة، ولكن، لماذا لا نستغل طلاقتنا هذه بخطابات ذكية توصل أفكارنا لكل العالم، بدل أن نكتفي بالتظاهر في البلاد الأجنبية بلغة عربية لم يصل منها سوى مشاعر الغضب البعيدة عن التفكّر. أم أن الغضب، الغضب وحده ما يمكننا التعبير عنه بلغتنا الأم؟!
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة