صناعة القدوات في الدراما التركية
منذ عقد أو يزيد، بدأت المسلسلات التركية تأخذ حيزاً كبيراً -بل ومجنوناً- من اهتمامات المشاهد العربي، الذي ظل لسنواتٍ طويلة حبيس سطوة الدراما المصرية والسورية، التي كانت تحصد حصة الأسد من نصيب عدد ساعات مشاهدته اليومية للتلفاز بمختلف برامجه.
هذا الانفتاح الذي أحدثته الدراما التركية على العالم العربي، والذي جاء بفضل حركة "الدوبلاج" النشطة لكل ريحٍ تحمل ذاك الهواء التركي العليل، والذي جاء بكل ما تحتويه تلك البلاد من غثٍ سمينٍ، أحدث آثاراً بليغة قَّرحت عقل المشاهد العربي الذي كان حينذاك لا يزال يحافظ على شيءٍ ولو يسيرٍ من العفة والمحافظة التي تمتاز بها المناطق العربية عموما، إذ كانت الدراما المصرية والسورية في تلك الحقبة قد بدأت عصر الانفتاح حقاً لكنها تسير بحركة بطيئة في هذا الاتجاه حتى لا يصاب المشاهد بصدمة ثقافية تُحدث نتائج عكسية لا يريدها مسيرو الدراما العربية وسماسرتها.
وفي غفلةٍ من هذا التصاعد الدرامي العربي المتباطئ، جادت الدراما التركية على المنطقة العربية بكل ما تحمله قريحتها من انفتاحٍ غربيٍ بأيدٍ شرقية وقصص غرامية ومشاهد رومانسية أضعفت مقاومة المُشاهد على الصمود أمامها، فصوَّب مؤشر لاقطه نحو القنوات التي تنقل له هذه البطولات الرومانسية وتجسّد قصص روميو وجولييت بالصوت والصورة، والإحساسِ والنشوة أيضاً!
بهذا الانفتاح، كشفت الدراما التركية للمُشاهد ما يحدث خلف الأبواب المغلقة وانتقلت به من قصص الحب التي كانت تعرضها التلفزة العربية من وراء ستار وأرته كل شيء عياناً، فهتكَ الإنتاج التركي هذه الحُجب ومزَّقَ تلك الستائر وأزاح عن عين المشاهد العربي محذورات جمة وصارت جل محظوراته متاحة دون أن تكلفه مؤونة إكمال المشهد في عقله الباطن، كما يفعل غالب المخرجين العرب.
في تلك الفترة، أحدثت هذه الخطوة العديد من ردود الأفعال المتشعبة، فصار الرجل ينظر إلى زوجته ويقارنها بـ"لميس"، ليجد أنه يعيش فعلاً في سنوات الضياع! بينما لم تقف المرأة مكتوفة الأيدي حيال ذلك، فأصبحت تنظر إلى زوجها صاحب السحنة القمحية العربية وتعايره بمهند الأشقر؛ وهذا حدث فعلاً، ومن يعود ليتابع أخبار تلك الفترة سيقرأ عن حالات الطلاق التي حدثت بسبب ذلك.. في المقابل، عاشت فتياتٍ عدة ينتظرن فارس الأحلام الذي صنعته الدراما التركية في عقولهن، ودأب الشباب على ارتداء صور مهند الجميل على صدورهم مصطفين في الشوارع وخلف المقاهي يتحسسون ريح "نور".
أذكر حينذاك أن خطيب مسجدنا صعد المنبر وخصص خطبته بأكملها للحديث عن الموت القادم من جوانب البسفور وشواطئ الدردنيل ودعا جموع المصلين، من آباء وأمهات، إلى مراقبة ما يعرضه التلفزيون في البيت على أبنائهم وبناتهم من سمومٍ وآفات مجتمعية تضرب صُلبَ المجتمع في مقتل، حتى و=أن الغضب الشعبي في المضارِب المحافظة كان ينصبّ بكيفية أو بأخرى، على تركيا بكل ما تحتويه باعتبارها هي التي تصدّر هذا الفساد الخلقي والنشاز الثقافي، إذ أصبحت كلمة تركيا حينها مرادفة لمصطلحات النشوز والسفور.
مر زمن طويل منذ ذاك اليوم تبدلت فيه الثقافات وتغيرت، وتعرّت فيه الحقائق التي كانت في لحظة من اللحظات متسترة، وبات ما كان ممنوعاً ديناً وثقافةً وخُلُقاً عشقاً مسموحاً ولو وصَمَته يوماً بالعشق الممنوع! ولأن ميزان الحياة لا يستوي في اتجاه واحد، فقد كان لا بد من اتجاه آخر من النوع نفسه يصارع الاتجاه الأول ويحيي سنة التدافع، حتى في عالم الدراما، لتصارع في ذلك الدراما الدراما كما يصارع الفكرُ الفكرَ والسلاحُ السلاحَ. لم يكن هذا الاتجاه حديث النشأة، بل أخذ في التطور شيئاً فشيئاً حتى أصبحت الرسالة واضحة جداً مؤخرا، تسير والاتجاه السياسي التركي الذي أوضح مراراً وتكراراً أن أمجاد الدولة العثمانية ناموس يفتخر به الأتراك ويسعون يوماً لإعادة أمجادها التي كانت يوماً لا تغيب عنها الشمس.
على بعد سنوات من ولادة عثمان، مؤسس الدولة العثمانية، حيث الصراع الأيوبي في الشام وأحفاد "الأوجوز" الأتراك في الدولة السلجوقية، حطت الدراما التركية رحالها ونصبت خيامها لتحكي قصص معاناة أجداد وآباء عثمان المؤسس وتروي لنا بطولات أرطغرل التي أرست لنجله قواعد تأسيس أعظم دولةٍ إسلامية امتد نفوذها إلى أمداء الشمس ودارت حيث يضيء القمر، بعدما كانت عبارة عن قبيلة لا تتجاوز الألفي نسمة تسمى قبيلة "الكايلار".
ومن أرطغرل، الذي أسر ألباب الجماهير العربية والتركية على حدٍ سواء ليحصد أعلى نسبة مشاهدات في تاريخ المسلسلات التاريخية التركية، قفز الإنتاج التركي إلى آخر سلاطين الدولة العثمانية، السلطان عبد الحميد الثاني، ذاك الذي نالت سيرته سيلاً كبيراً من التشويه والتضليل؛ لتأتي الدراما التركية تذود عن حمى أجدادها وصانعي أمجادها، فجسدت حياة السلطان عبد الحميد وما حمله من ثبات على مبادئ دولته وحمى إسلامه، ليتكامل بذلك في عقل المشاهد قصةً طويلة من البداية حتى النهاية، منذ أن افتتح عثمان ستارة الخلافة وحتى إسدالها في عهد عبد الحميد، وبين هذا وذاك، يأتي دور أعظم الفتوحات الإسلامية في التاريخ، إذ يبدأ قريباً بث مسلسل يروي بطولات محمد فاتح القسطنطينية، تلك التي خيرُ الأمير أميرُها وخير الجند جندها!
هذا الانتقال في خط سير الإنتاج الدرامي التركي لم يكن محض صدفةً البتة، فبعد سنوات طويلة من البطولات المزورة تحت مسمى المعارك الغرامية والحروب العاطفية، أعاد أحفاد مراد الثاني صناعة القدوات من جديد بمراد آخر اشتهر بـ"علمدار"، ثم بـ"أرطغرل" وسلالته المباركة، وصولاً إلى محمد الفاتح وانتهاءً بعبد الحميد الثاني.. لتقدم التلفزة التركية بذلك للمشاهد العربي وجبة دسمةً من الإثارة والمتعة، مكوناتها من الإرث التاريخي العريق وبطولات لا انفكاك للأمة عنها ولا خلاص لها إلا باجترارها والسير على نهجها، حتى لا تستمر الأوراق المتساقطة تستأجر الحب وتستجيب لأي ريحٍ عابرة تُكَّسر أجنحتها وتمضي بها أياماً في تيهٍ من العشق الأسود والممنوع وترد كيدَ من قال إن للسلطان حريماً لا يشغله سواهنْ.
المصدر : مدونة الجزيرة
الكلمات الدالة : القدوة تاريخ دراما مسلسلات تركية الحضارة الإسلامية الفضائيات وسائل التواصل الاجتماعي
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن