متى ينبغي عليك حذف صديقك من فيسبوك؟
يتناول التقرير بعض الجوانب الفلسفية المتعلقة بالصداقة في عالم رقمي ممتلئ بالاختلافات التي تنتهي أحيانا بتصدعات في العلاقات بين الأفراد، ويصحبنا النص التالي عبر فلسفة أرسطو إلى قراءة معمقة لمفهوم الصداقة، وهو المصطلح الذي نرتكز عليه هنا لقراءة نسبية القرارات التي نتخذها تجاه الأفراد الذين يحيطوننا.
نص التقرير
صارت طبيعة وأخلاقيات "الأخبار الزائفة" قضية تسبّب قلقا واسع النطاق، ولكن يعتبر كثير منا أنها قضية شخصية، فما الذي نفعله عندما يظهر عمٌّ غريب الأطوار أو صديق قديم غير محبب إلينا في التحديثات الخاصة بحسابنا عبر سيل من المنشورات التي قد تتعارض تعارضا شديدا مع قيمنا؟
يمكن اللجوء إلى أحد الخيارات عبر إلغاء الصداقة مع الأشخاص الذين ينشرون مواد تتعارض مع قيمنا، ولكن في ظل بيئة منعزلة يعبر فيها الأشخاص عن خياراتهم بأنفسهم داخل مساحات شاسعة من الفراغ يمكن أن يكون هذا الأمر مقلقا. ونظرا لأنّي باحثة يتركّز عملي على الأخلاقيات المتعلقة بتكنولوجيا مواقع التواصل الاجتماعي، سأبدأ بما قد يبدو مصدرا غير محتمل: إنه الفيلسوف أرسطو.
لعل اليونان القديمة تتشابه قليلا مع العالم الحالي الممتلئ بالهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي، غير أن أرسطو ليس غريبا على الكفاح من أجل تكوين علاقات اجتماعية والمحافظة عليها، ولا سيما في ظل مناخ سياسي مثير للجدل.
قيمة الصداقة
تتعلق المسألة الأولى بالصورة التي ينبغي أن تبدو عليها الصداقة الحقيقية. يجادل أرسطو بأن:
"الصداقة الكاملة هي صداقة الرجال الطيبين ذوي الفضائل المتشابهة"
في ظاهر الأمر، قد يبدو إذًا أن الصداقات ترتبط بالضرورة بأوجه التشابه بين المتصادقين، وأنها تنشأ عندما يجتمع أشخاص متشابهون في أسلوب التفكير. قد تنشأ مشكلة عن هذا الرأي إذا اعتقدنا أن أي صداقة جيدة تتضمن احترام الاختلاف. كما يمكن أن تشكّل سببا يدعو الأشخاص لحذف أصدقائهم الذين يختلفون معهم سياسيا.
بيد أن أرسطو لا يقول إن الأصدقاء ينبغي أن يكونوا "متشابهين"، ما يقوله إن أفضل صديقين يمكن أن يختلفا ورغم ذلك يتشاركان فيما بينهما في حياة طيبة طالما أن كليهما فاضل بطريقته الخاصة. بعبارة أخرى، ليس هناك تشابه ضروري سوى أن يكون كلاهما فاضلا.
يعني أرسطو بـ"الفضيلة" السمات التي يتحلى بها أفضل الأشخاص، وتتضمن هذه السمات الشخصية الشجاعة والطيبة التي تساعد الأفراد ليكونوا طيبين عند التعامل مع الآخرين، ومع أنفسهم، وتجعلهم يحيون حياة طيبة. تساعد مثل هذه السمات في ازدهار الأفراد، باعتبارهم كائنات اجتماعية رشيدة.
تقدير الاختلاف
سوف أبرز هذه الحقيقة مرة أخرى: إذا اعتقدنا أن هذه السمات الشخصية ظهرت بنفس الطريقة مع كل الأفراد، فقد تشعر بالقلق من أن ذلك ما زال يعني أن الأصدقاء يجب أن يكونوا متشابهين جدا. ولكن ليس ذلك ما يقوله أرسطو بشأن طبيعة الفضيلة.
إذ يقول إن سمة الفضيلة تتكون من امتلاك الكمية الملائمة من النزعة البشرية الشائعة، أي ليس أكثر من اللازم ولا أقل من اللازم. على سبيل المثال، تعد الشجاعة موقفا وسطا بين الإفراط في الخوف ونقصه، إذ إن الخوف أكثر من اللازم قد يمنع الناس من الدفاع عما يعتبرونه قيمة لهم، فيما قد يجعلهم الافتقار الشديد إلى الخوف عرضة للإصابات غير الضرورية. ولكن ما يُنظر إليه على أنه الحل الوسط يعد نسبيا، حسب الفرد، وليس مطلقا.
ولننظر على سبيل المثال إلى أن الكمية الكافية من الطعام تختلف بين رياضي مخضرم ورياضي مبتدئ. ينطبق هذا القياس ذاته على الشجاعة والفضائل الأخرى، فما يمكن اعتباره كمية ملائمة من الخوف تعتمد على ما يحتاجه المرء للدفاع، وما الموارد المتاحة للدفاع.
لذا يمكن أن تبدو الشجاعة مختلفة باختلاف الأشخاص وباختلاف السياقات. بعبارة أخرى، قد يحمل كل فرد الطراز الأخلاقي الخاص به من دون الآخرين. ولعل هذا يترك مساحة على ما يبدو لتقدير الاختلافات بين الأصدقاء على مواقع التواصل الاجتماعي. كما ينبغي أن يقدم سببا للأفراد كي يكونوا حريصين مع استخدام خيار "إلغاء الصداقة".
العيش معا
يرى أرسطو أن الحياة المشتركة مهمة لتفسير سبب أهمية الصداقة لنا، وأهمية الشخصية الجيدة للصداقة. إذ يقول إن الأصدقاء "يفعلون الأشياء التي تعطيهم الشعور بالعيش معا ويتشاركون فيها. لذا فقد اتضح أن الصداقة مع الرجال السيئين شيء شرير (فنتيجة لعدم استقرارهم يتحد هؤلاء في المساعي السيئة، إضافة إلى أنهم يصبحون أشرارا عن طريق التشابه فيما بينهم)، بينما تعد صداقة الطيبين جيدة، إذ تعزز هذه الصحبة من طيبتهم...".
ويرى أرسطو أن الفضائل تُعرّف بأنها تلك السمات التي تساعدك على الازدهار بوصفك كائنا اجتماعيا ورشيدا. كما أن إبراز أفضل الجوانب لديك يساعدك على العيش حياة جيدة.
ويقول إن العكس يتحقق أيضا مع الرذائل. يقصد أرسطو بالرذيلة أي كمية غير ملائمة من السمة الشخصية، إذ إن زيادة الخوف، على سبيل المثال، أو قلَّته تقلق الآخرين. ويمكن أن تجعل الرذائل حياة الأفراد أسوأ في العموم، وحتى إذا كانت أكثر إمتاعا على المدى القصير. فلا يمكن لأي امرئ يوصف بالجبن أن يقف مدافعا عن القيم التي يؤمن بها، ومن ثم فهو يؤذي نفسه أيضا وليس الأشياء التي كان ينبغي أن يحميها وحسب. كما أن الإنسان الأناني يجعل نفسه غير قادر على تكوين الصداقات الحميمة ويحرم نفسه من خير إنساني مهم للفرد.
الاختلافُ ليس سيئا، بل إن لديه قدرة على إثراء حياتنا، غير أن مصادقة الأشرار تُخرج أسوأ جانب منا، لأننا نهتم بأمرهم ونرغب أن يحيون حياة كريمة، ولأنهم يؤثرون علينا.
كيف يمكننا أن نستخدم فيسبوك بحكمة ومهارة؟
ما استخلصه من هذا أننا لا يجب علينا الاعتقاد بأن الاختلافات بين الأصدقاء، إن كانت اختلافات سياسية أو أي نوع آخر من الاختلافات، لا تشكل مشكلة أو عائقا أمام الصداقة. ولكن في الوقت ذاته، لا شك أن الصفات الشخصية تحمل قدرا كبيرا من الأهمية. إذ يستطيع تكرار التفاعل مع الآخرين، حتى وإن كان عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أن يُشكّل سماتنا الشخصية بمرور الوقت.
لذا بالنظر إلى السؤال القائم الذي يقول: هل ينبغي أن أبتعد عن "صديق" لي بموقع فيسبوك؟ الإجابة المختصرة هي "يتوقف على عوامل أخرى"، لكنها إجابة غير شافية.
يصل فيسبوك الناس ببعضهم، لكنه يفرض مسافة سيكولوجية ومادية. قد يجادل أحد الأشخاص بأنه يسهّل مشاركة أفكارنا (حتى الأفكار التي قد لا تظهر في المقابلات الشخصية) وأيضا يسهّل علينا الانفصال عن الآخرين، حتى عندما تصعّب علينا الضغوطات الاجتماعية أن نفعل ذلك وجها لوجه.
إن التوصل إلى التوقيت الملائم الذي يمكن للأفراد أن يجربوا فيه هذه القدرات المختلفة قد يتطلب منهم ممارسة الفضائل، لكني أوضحت أنها لا تمنح أي فرد دليلا إرشاديا رسميا يمكن اتباعه للتصرف، فما يُنظر إليه على أنه فضيلة يعتمد على تفاصيل الظرف الذي حدث في سياقه.
علامات لنتهدي بها
تبدو كثير من العوامل ذات صلة، فمواقع التواصل الاجتماعي تجعل الأفراد أسعد عندما يستخدمونها للتواصل بدلا من المراقبة السلبية، لذا فإن تنوع المحادثات والعلاقات يمكن أن يثري حياة الأفراد. نمتلك على موقع فيسبوك فرصة للتعرض إلى "الآراء والأخبار المتنوعة أيديولوجيًّا".
ولا شك أن إلغاء الصداقة مع قريب غير محبب أو زميل عمل بغيض في بعض الأحيان يساعدنا على الإبقاء على حالة السلام الخاصة بنا... ولكن قد يكون هذا ضربا من ضروب الجُبن. كما أن الجدال مع أحد الأشخاص عبر الإنترنت يعزز أحيانا من عدائنا ويجعلنا أسوأ على المدى البعيد. إننا نريد أن نحظى بمحادثات جيدة تعزز من العلاقات الطيبة.
لكننا نحتاج هنا أيضا أن نُبقي على حساسيتنا لتفاصيل السياقات التي تدور فيها المحادثات، فبعض المحادثات يكون من الأفضل لها أن تتم في ظل وجود مسافة بين طرفيها، والبعض الآخر يُفضل أن تكون وجها لوجه.
وفي نهاية المطاف، ترتبط بعض أسباب التواصل أو الانفصال عن الأفراد ارتباطا جذريا بالقلق الكامن في شخصيتنا، فيما تدور أسباب أخرى حول شخصيات الآخرين. ولدينا سبب لنرعى الاستعداد الباسل والعطوف بأن نضع في الحسبان الآراء العالمية للآخرين وأن نكون مدركين لنزعتنا للحط من قدر المنشورات (والأشخاص) لأننا نختلف معهم. لكننا أيضا نرغب أن يكون أصدقاؤنا طيبين.
نحتاج أن نتذكر مقولة "الشيطان يكمن في التفاصيل". في اعتقادي أن سبب تعرضنا لهذا الموضوع أنه يعارض الإجابات السهلة والمغلفة، ولكن باستخدام الأدوات التي قدمها أرسطو لنفكر في المكان الذي نرغب في الاستقرار به، يمكننا أن نجد طرقا للتواصل بطريقة تجعلنا أفضل على الصعيدين: الشخصي والجماعي.
المصدر : الجزيرة - ميدان
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة