نجوم الظهر وقمر النهار!
تحضر معلمتنا دعد ابنتها رولا معها إلى المدرسة أحيانا، وهي معلمة موفدة من العاصمة إلى بلدتنا النائية التي تفتقر إلى المعلمين الأكفاء، ابنتها من أترابنا، في الصف الخامس أيضا، من مدرسة ذات النطاقين المجاورة، وغالبا ما تجلس على سدّة الطاولة، في صدر الصف، وكأنها معلمة صغيرة. ورولا اسم غير معهود في ديارنا، وليس لنا به عهد.
أحيانا تتركنا دعد للعواصف والأنواء والمعارك، إما لإحضار لوازم مدرسية من غرفة الإدارة أو للحديث مع إحدى الزميلات، أو تمنح نفسها إجازة ريثما ننقل ما دونته على اللوح إلى قراطيسنا بأوعية الكلام ومتون الأقلام، أو في الاستراحة بين حصتين، فيستغل زميلنا صلاح هذه الهدنة لمشاكسة زميلنا أيمن، وهو من أكثرنا أناقة في الهندام، وتهذيبا في السلوك، واجتهادا، زيّه المدرسي البني مكوي، وقصير، ومزين بجيوب إضافية، وكتافيات، وما يشبه النطاق، وأغطية للجيوب، وليس مثل جلابيبينا؛ طويلة، وكأن الأهل قد اتفقوا على خياطتها هكذا، حتى تواري عيوب ثيابنا وتسترها.
وفوق هذا لأيمن خط جميل موزون، مسطور، الأحرف فيه متوازنة، متساوية البعد والمسافة، متعادلة، كأنما هو خط آلة طباعة، واضح، فصيح، قوي الشكيمة. وأمه تنتظره على باب المدرسة، وتصحبه إلى الدار، بينما نصل نحن إلى البيت متأخرين مثخنين بالجراح من معارك الطريق ووعثاء السفر.
عاتبت صلاح مرارا لاعتدائه الظالم على أيمن الذي لم أجد له سببا! يضحك صلاح، ويقول: إنه لا يعرف سببا لاعتدائه الدائم عليه، ويقرُّ بعدوانه، ربما لأنه متفوق، أو لأنه منعّم
وما إن تترك دعد أشرعة الصف للريح حتى ينخطف صلاح من غابات الخطوط الخلفية مثل شهاب، ويكرّ على المقعد الأول غير مذمم، ويشد أيمن من تلابيبه، وهو ينظر إلى ابنة المعلمة الجميلة الصغيرة -التي رقّتها أمها إلى رتبة فريق أول، كما يفعل الرؤساء العرب بأولادهم- ضاحكا، كأنما سيقدم لها هدية أو قربانا من الأرض، زلفى. ويكون قد انتخب قربانه من أملح الأضاحي، فيشدّه ويبطحه على الأرض بلفّة واحدة، تشبه مهارات الجودو، يتعثر أيمن بقدم صلاح، ويسقط على الأرض، صريعا مجندلا، وسرعان ما يجثم على صدر القربان، وهو يبتسم، وينتظر جائزة الابتسامة الزاهرة على شفتي الزعيمة الصغيرة.
صلاح جاري وصديقي. نكتب أحيانا الواجبات المدرسية سويا. أمه وأختي تخبزان كل يومين الخبز في التنور، ونغدوا في حملات لصيد الطيور سويا في الربيع والصيف. وفي الصيف نذهب للكتّاب لتعلم القرآن الكريم، ونحن نحمل جزء عم أو ربع ياسين، ومطرة ماء.
وقد عاتبته مرارا لاعتدائه الظالم على أيمن الذي لم أجد له سببا؛ هذا ظلم، ولا يجوز، فلا تظالموا. يضحك صلاح، ويقول: إنه لا يعرف سببا لاعتدائه الدائم عليه، ويقرُّ بعدوانه، ربما لأنه متفوق، أو لأنه منعّم، أو لأنه ابن موظف حكومة، ونظيف.. فأجد سببا لردعه غير السبب الأخلاقي والمروءة والإحسان: هذا سبب قد يدفعك إلى الحذر، فوالده قد ينتقم، ويعاقب والدك بغرامات تموينية.
كل مرة تحضر فيها القائدة الصغيرة مشرفة على جيش الصف من علياء سدة الطاولة، يخسر أيمن معركة لا يريدها، ولا يستطيع تجنبها، ويبدو أن أمه قد حذرته من العنف والشقاوة، وحببته في السلام والمهادنة، إلى أن أكرمه الله، فانتقل إلى بلدة أخرى فارتاح من دور القربان. الموظفون الحكوميون كثيرو الانتقال حسب الحاجة الحكومية.
في اليوم التالي، حضرت رولا، وجلست على محكمة الطاولة من غير مطرقة أو سندان، وتركت أمها دعد الغرفة في الاستراحة، فخرج صلاح من خنادق الخطوط الخلفية، متبخترا، وصال وجال، وألقى نظرة على القطيع ليختار منه الضحية، ثم قصد الصف الأول، ومدّ يده إلى خناقي، وجذبني من فوق قربوس المقعد، وسرعان ما بطحني على الأرض، بطريقة لاعبي الجودو نفسها، وجثم على صدري، فصرت فرسا، وصار فارسا، ونظر إلى هيئة المحكمة الموقرة، راغبا في جائزة رضى من عينيها، أو ثناء من ثغرها. ما هذا يا صلاح! نحن جيران وأصحاب، وعشرة عمر، أختي وأمك تخبزان معا الخبز في التنور، وبيننا خبز وملح، تذكر أنك كلما زرتنا ملأت جيوبك بالزبيب. فيضحك صلاح، ويقول: آسف والله لا أعرف ما السبب؟
هجرة أيمن كانت وبالا عليّ، مع أن خطي ليس جميلا، ولست مهندما، ولا أنيقا، وابن الشعب. صرت أرشو صلاحا بالحلوى، وبجزء من مصروفي، حتى أكفَّ شره عني، لم أعد أتحمل ذل الهزيمة ونظرات الإهانة من عيني المعلمة رولا. خسارتي مضاعفة، ولا أعرف أيهما أمرّ؛ هزيمتي أمام المعلمة الصغيرة أم هزيمتي أمام صديقي.
صلاح كلما استعرضت الأميرة رولا شعبها أراني نجوم الظهر، وقمر النهار، وأنا أزداد خجلا، وانكسارا، يا خوف فؤادي من غدي، هكذا أحتمل العمر نعيما وعذابا، مهجة حرّة وقلبا مسّه الشوق فذاب. رولا جميلة، وأنا محاصر، ذئب جمالها من أمامي، وأنياب صاحبي صلاح من خلفي، وليس لي إلا الصبر، فأين المفر؟ كل يوم يرفعني، ويفرشني فوق رأسه، مثل مظلة المطر، ويلوّح بي، ثم يبطش بي، ويجثم على أضلاعي، فيكاد يخنقني. لا بد من خلاص.
شكوته إلى والدي، فمأساتي مضاعفة، ألم الصرعة، وكسوف الذل أمام القمر. ولا سبيل إلى هزيمته فهو ضخم، من قوم طالوت، شكاه والدي إلى والده، فأحضره إلى المحاكمة في محله. ووالده قزم قصير له حدبة في ظهره، طوله يبلغ سرّة ابنه. أمره بأن ينحني، فانحنى طائعا، فهو يرهب والده، فصفعه صفعة قوية، أظن أن والده تألم من الصفعة أكثر من ألم صلاح لها. وسأله: لم تؤذي الولد وتضربه، وهو صاحبك، وابن صاحبي؟ فهمني؟
ضحك صلاح وهو يحكُّ خده الأحمر من الصفعة، وقال ناكسا رأسه مقرا بذنبه: لا أعرف. والدي حاضر يشهد المحاكمة، واجتمع زبائن آخرون، ووقفوا ينظرون كيف أبني قواعد الذل وحدي. بالتحقيق والاستقصاء، وصل والده إلى معرفة السبب: إذا أنت تضربه كلما حضرت البنت رولا. ضحك صلاح وهزَّ رأسه.. سأل الوالد: أهي حلوة؟ أقر صلاح باسما بالباعث على الجريمة: قمر. نحن نجهل حكاية تحول الإنسان إلى ذئب في ليلة اكتمال الهلال بدرا، فهي أسطورة غربية، لكن يبدو أن الجميع يدركونها إدراكا. لم يقرأ أحد منا كشوفات العلوم بتأثير القمر على البحار مدا وجزرا، ولا على الإناث طهرا وفيضا، ولا على الذكور نشاطا وقهرا.
ضحك والده، وضحك الشهود، وحصحص الحق، حتى إن والدي ابتسم، وانتهى التحقيق، وحكمت المحكمة حضوريا بأن صلاح معذور، لا ذنب له، الهلال إذا اكتمل بدرا يحوّل الإنسان إلى ذئب، وقمرنا بدرفي أيام الشهر كلها. إن لم تكن ذئبا، لن يبتسم لك القمر، ولن يضحك في وجهك أبوك، ولن تزغرد لك أمك أيضا.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن