فتياتي الأربع
يكون النوم في عز سلطانه، والفراش في أوج احتضانه، ليطل وجهها ذو الملامح الرقيقة، وشعرها الأجعد الذي ترثه عني، فتقول بصوت، يمتزج بزقزقة عصافير الشجرة المحاذية لنافذة غرفتي، باستعطافٍ غير مقصود، واسترحامٍ غير مصطنع: "بابا، الباص راح"، إنها سوار، فتاتي الثانية، عندما يرسلونها لي ، كطالبة لا يرد لها طلب، فتنتزعني من نومي، وتسحبني بكل هدوء يقيني، من أجفان النعاس، لأوصلهم إلى المدرسة القريبة، إذ لم يسعفهم الوقت هذه المرة، وفاتتهم الحافلة، والمشط ما زال معلقاً في الشعر الأجعد، فقد قاوم تمشيطه، حتى "راح الباص".
أن تكون أباً لأربع فتيات، فإنك قد هزمت في معركة قسوة القلب، وتجلد الرجل، وصلافة الطبع، كانت "جَنان" أول ترطيبات القلب الفلاّحي الجبلي الذي أملكه، هذا القلب وهذه النفس، كانت تعتبر البكاء مَنقَصَةً، والحنية ضعفاً، فهمست لي بهدوء عينيها، واحتضان ذراعيها، هوّن عليك أيها الشرقي الصلف، واترك قلبك لابنتك الأولى، تعيد غزله على مُكْث، فرطبته ترطيبا.
ثم جاءت "سوار"، فعلمت أن الرقة تتجسد في طفلة، لا تملك من دنياها إلا شعراً كثاً، وغضاضة جسد، وصوتاً يُبينُ ولا يُبين، فأصبح دمع عيني مغداقاً بعدما كان عزيزاً كلما أصابها مكروه، أو ذرفت دمعة، أو تذمرت شاكية.
أن يكون لديك أربع فتيات، أن تتجاهل دعوات الحاجة العتيقة في قريتي، برزقك الصبي، وتفخر بغير عادة أصولك، بحكاياهن وقصص غرامك بهن. أن تدرك ما أصاب قلبك من رقة وما هز ذاتك من حنو، وما مازج روحك من حنين
لكن رب القلب لم يكتفِ من قلبي بهذا الحد، فوهب لي من الجمال "شام"، فكانت كاسمها، جليلة جميلة، قوية أنيقة، تعرف كيف تكون حاضرةً وسط الثلاث فتيات، فتظهر وكأنها ذات شكيمة، وشخصية متفردة، لكنها تتسلل نحوي ليلاً، في استفراد مدروس بحضن الأب، لأتفاجأ باعتصارها اللطيف لي، واختبائها المتململ في غطائي، لأرى في وجهها المغمض، وأطراف غرتها المنسدلة على الجبين، مساحات من البراءة، وجمالاً أميرياً قرأت عنه في قصص الحكايا الغابرة.
ثم كانت "ألما"، باسمها الإسباني، والعينين الملونتين، شابهت أخواتها في ذلك، لكنها فاقتهم في التصاقها بأهلها، فهي تعرف كيف تبقى دائما حاضرة، في أذرعنا محمولةً أو في فراشنا نائمةً أو في سهرتنا ساهرةً، تخبرني يقيناً بأنها كل الحضور، وبأنها منتهى العصور، تنظر لها جنان نظرة الأم، وسوار نظرة العطف، وشام نظرة التوجس، حدث ذات يوم، أن امتحنت "شام" بخدعة التخلي عن "ألما" فاستنفرت كل قوتها، وقاومت بكل الأدلة والطرق، فكرتي العجيبة، في حين همست "سوار" بأنه لا يوجد أب يفعل ذلك بابنته، بينما كانت "جنان" بابتسامة هادئة مدركة للمشهد التمثيلي القائم من أبٍ مخرجٍ يمارس صنعته على " شام" الصغيرة.
أن يكون لديك أربع فتيات، فهو أن تعلق صورتهن أينما رحلت وارتحلت، وأينما حللت وسكنت، أن تحرص على إحضار هدية السفر من كل دولة تطوفها، وكل محطة تقف بها، أن تقف في محل هدايا الأطفال، تحاول إيجاد اللعبة الكبيرة الجامعة لهذا التنوع العقلي والعمري إذا لم يسعفك الوقت في الانتقاء، أو تقلب الألعاب والهدايا حسب عُمْر وشخصية وذوق كل فتاة، وآهٍ من أذواق الفتيات.
أن يكون لديك أربع فتيات، أن تنتظر ليلة العيد على عتبة محلات الألبسة، نقاشهم التاريخي حول حذاء، يليق أو لا يليق بثوب العيد، أو تجلس في مقعد السيارة بانتظار أن تنتهي أميرات المرايا، من انعكاساتهن الأنيقة، واختبارات الجمال. أن يكون لديك أربع فتيات، أن تتجاهل دعوات الحاجة العتيقة في قريتي، برزقك الصبي، وتفخر بغير عادة أصولك، بحكاياهن وقصص غرامك بهن. أن تدرك ما أصاب قلبك من رقة وما هز ذاتك من حنو، وما مازج روحك من حنين. أن يكون لديك أربع فتيات، يهرعن من غير طلب لإحضار كأس الماء بعد يوم طويل، ويجتهدن مِن غير سبب في مداعبة شعرك الأشعث، ويزاحمنك من غير حساب فراشك الوثير.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة