- كاتبة وباحثة في الفلسفة والسياسة
'أنقذوا الغوطة'.. النداء الأخير
لا أعرف لمن يوجَّه هذا النداء؟ "أنقذوا الغوطة" ولكن ما أعرفه أنّ العالم يجب أن يسمعه، ويجب أن يعرف أنّ هناك في هذا الجيب الدمشقي من استغاث يوما: "أنقذونا" و"أنقذوا الغوطة"، أنقذونا من القتل ومن القصف ومن الإصابات المميتة ومن الجوع.
الغوطة الشرقية هي آخر ما تبقّى من مناطق الثورة السورية في ريف دمشق، والغوطة هي الجيب الثائر الذي صمد في حصار أطبقَ عليه منذ 15 مارس/آذار 2013. حين حدثت الثورة، كان سكان الغوطة الشرقية يقدّرون بأكثر من مليون نسمة، ثمّ تناقص عددهم إلى أقلّ من 400 ألف متروكون وحدهم يواجهون مصير الإفناء.
في الحقيقة، لقد أنقذ الغوطانيون أنفسهم حين صمدوا في الحصار طيلة خمس سنين يتخللها قصفٌ دائم بالبراميل المتفجرة ثم بالطيران الروسي بوتيرة منخفضة. في ظلّ الحصار، تدرّب الغوطانيون على الاعتماد على محصولهم الزراعيّ الداخليّ، وعلى العيش على الغذاء النباتي فقط. أنقذ الغوطانيون أنفسهم حين قرروا نقل الحياة إلى تحت الأرض؛ فبنوا الأنفاق والملاجئ والمدارس والمستشفيات في الأقبية، ليحموا من تبقّى منهم ويستطيعوا الصمود. يصوّر لنا الفيلم الوثائقي "عالم آخر" الحياة في الأقبية التي أعانت الغوطانيين على الصمود في محاولات الإبقاء على حيواتهم وحيوات أطفالهم ونسائهم ورجالهم في مواجهة هجمات الموت اليومية بالقصف والبراميل والمدفعية.
"أنقذوا الغوطة" ليس نداء لإيقاظ الغافلين من القوى القادرة على إيقاف الحرب، فهم في الحقيقة ليسوا غافلين، بل عارفون ومتواطئون بالصمت وغض الطرف والأنانية المصلحية
أنقذ الغوطانيون أنفسهم حين أصبحت "الشهادة" مفردة من مفردات الحياة اليومية. الشهداء كانوا يعلون للسماء كل يوم؛ فلم يتوقّف القصف يوما على بلدات الغوطة الشرقية طيلة أعوام الحصار الخمسة. العالم هو من لم يكن يأبه لمأساة منطقة محاصرة تحت القصف اليومي.
"عمر الصالح" صديقٌ على فيس بوك يسكن في مدينة دوما ويفضل الموت فيها على مغادرتها كان ولا يزال يكتب باستمرار على صفحته أخبار القصف اليومي والبراميل المتفجرة، والخنق بغاز الكلورالذي يطال الدومانيين كلّ يوم. يكتب عمر عن الأطفال الذين استشهدوا والنساء والرجال؛ ينشر صورا للأطفال المقتولين بالبراميل والطائرات الغادرة.
يكتب عمر ولا أحد يأبه كثيرا لما يكتب. حين وصلت لحساب عمر على فيس بوك عام 2015 كان كثيرا ما يدوّن تحت هاشتاج #دوما_تباد، وأحيانا كان يضيف "ببطء" نعم، حرب الإبادة المستمرة على البشر والحجر في كلّ مناطق الثورة السورية لم تتوقف طيلة الأعوام السابقة، ولم تتوقف بالتالي في الغوطة الشرقية. كلّ ما في الأمر، أن الجينوسيد والتطهير الطائفي لم يكن ليحدث في وقت واحد، وكانت الغوطة الشرقية في مرمى الهدف بعد القضاء على حمص، والغوطة الغربية وحلب.
"أنقذوا الغوطة" ليس نداء لإيقاظ الغافلين من القوى القادرة على إيقاف الحرب، فهم في الحقيقة ليسوا غافلين؛ بل عارفون ومتواطئون بالصمت وغض الطرف والأنانية المصلحية. "أنقذوا الغوطة" النداء الذي يجب أن يُسمَع؛ حتى إذا أودى هذا التصعيد الجوي والبري على الغوطة والذي اشتد منذ الأحد الماضي، ثم حصد الرؤوس وهدم البيوت والمستشفيات والمدارس، ثم لم نجد غوطة، ووجدنا مدنيين عالقين في مدنهم -في حال نجحت عصابات الأسد في التقدّم على جثث الأطفال والنساء والرجال- ثمّ تبقى بعض المدنيين فلم يبق أمامهم سوى الخروج من الديار، حتّى إذا حدث ذلك؛ فلنعلم أن الغوطة استنجدت واستغاثت مثل حلب فلم تجد من يجيب.
"أنقذوا الغوطة".. النداء الأخير.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة