الإنسانية في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم
إننا نرى في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الإنسان الحاني الرحيم، الذي لا تفلت من قلبه الذكي شاردة من آلام الناس وآمالهم إلَّا لبَّاها ورعاها، وأعطاها من ذات نفسه كل اهتمام وتأييد.
نرى فيه الإنسان الذي يكتب إلى ملوك الأرض طالباً إليهم أن ينبذوا غرورهم الباطل، ثم يصغي في حفاوة ورضىً إلى أعرابي حافي القدمين يقول في جهالة: "اعدل يا محمد، فليس المال مالك، ولا مال أبيك".
نرى فيه العابد الأوَّاب الذي يقف في صلاته، يتلو سورةً طويلةً من القرآن في انتشاء وغبطة لا يقايض عليها بملء الأرض تيجاناً وذهباً، ثمَّ لا يلبث أن يسمع بكاء طفل رضيع كانت أمُّه تصلي خلفه في المسجد فيضحي بغبطته الكبرى، وحبوره الجياش، وينهي صلاته على عجل رحمة بالرضيع الذي كان يبكي، وينادي أمه ببكائه.
نرى فيه الإنسان الذي وقف أمامه جميع الذين شنوا عليه الحرب والبغضاء، وقفوا أمامه صاغرين، ومثَّلوا بجثمان عمِّه الشهيد حمزة، ومضغوا كبده في وحشية ضارية، فيقول لهم، وهو قادر على أن يهلكهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» (رواه البيهقي في السنن الكبرى).
نرى فيه الإنسان الذي يرتجف حين يبصر دابةً تحمل على ظهرها أكثر ممَّا تطيق.
نرى فيه الإنسان وهو في أعلى درجات قوَّته، يقف بين الناس خطيباً فيقول: «من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقدْ منه» (رواه الطبراني في المعجم الكبير).
من ومضات رحمته صلى الله عليه وسلم أنه قال عن نفسه: «إنما أنا رحمة مُهْداة» (أخرجه الحاكم).
وبيَّن صلى الله عليه وسلم أنَّ الراحمين يرحمهم الله، وأرشد المؤمنين إلى التزام الرحمة فقال لهم: «ارحموا مَن في الأرض يرحمكم من في السماء» (أخرجه الترمذي).
ويجعل النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة فوق الفضائل الإنسانية كلها، فيجعل كل عمل رحيم عبادةً من أزكى العبادات. فعند النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ أعمالنا الرحيمة التي نسديها للآخرين إنَّما يراها الله قُربات توجَّه إليه ذاته، فإذا زرتَ مريضاً فأنت إنما تزور الله، وإذا أطعمتَ جائعاً فكأنما تطعم الله، يقول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟! قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ! يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟! قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي» (أخرجه مسلم).
ويصوِّر النبي صلى الله عليه وسلم رحمة الله بصورة باهرة أخََّاذة حينما رأى أمّاً تضمُّ طفلها إلى صدرها في حنان بالغ، ورحمة بالغة، فالتفتَ إلى أصحابه وقال لهم: «أترون هذه طارحةً ولدها في النار؟ قال أصحابه: لا والله يا رسول الله، قال: "الله أرحم بعبده من هذه بولدها» (اخرجه البزارفي مسنده).
وحينما دخل عليه رجل غريب يختلج، بل يرتجف من هيبته، استدناه وربت على كتفه في حنان وفرط تواضع، وقال له قولته الشهيرة: «هوِّن عليك، فإني ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة» (أخرجه ابن ماجه).
وانطلاقاً من قيم العدل التي آمن بها صلى الله عليه وسلم ، ودعا إليها، يبيِّن عليه الصلاة والسلام ويقول: «كلُّ المسلم على المسلم حرام؛ ماله ودمه وعرضه» (رواه مسلم).
وذات يوم أقبل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رجل فظ غليظ لم يكن قد رآه من قبل، غير أنه سمع أن محمداً يسبُّ آلهة قريش والقبائل كلها، فحمل سيفه، وأقسم بالله ليُسَوِّيَنََّ حسابه مع محمد، ودخل عليه، وبدأ حديثه عاصفاً مزمجراً، والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم، وتنطلق مع بسماته أطياف نور آسر، وما هي إلا لحظات حتى انقلب المَغِيظُ المتجهم مُحبّاً يكاد من فرط الوجد والحياء يذوب، وانكفأ على يدي محمد صلى الله عليه وسلم يقبلهما ودموعه تنحدر غزيرةً، ولما أفاق قال: "يا محمد، والله لقد سعيت إليك وما على وجه الأرض أبغض إليَّ منك، وإني لذاهب عنك وما على وجه الأرض أحبُّ إليَّ منك.
ما الذي حدث؟ لقد أحبَّ محمداً الرجلُ من كل قلبه، فخرَّ جبروت هذا الرجل صريع حب وديع.
قلب محمد صلى الله عليه وسلم مفتوح دائماً لكلِّ الناس، الأصدقاء والأعداء. وحينما اقترب الرجل من رسول الله صلى الله عليه وسلم مسََّته شعاعة من فيض قلبه الكبير..! معذورة قريش حينما لم تدرك هذا السر، فقالت: إنَّ محمداً لساحر.
• ومن توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في الحُبِّ والودِّ:
«والذي نفس محمد بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا» (رواه مسلم).
«إذا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ» (رواه البخاري).
«وإذا آخى الرجلُ الرجلَ، فليسأله عن اسمه واسم أبيه، ومِمَّن هو؟ فإنه أوصل للمودة» (رواه الترمذي).
«إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه؛ فإن ذلك يحزنه» (رواه مسلم).
«مَن هجرة أخاه سنة فهو كسفك دمه» (رواه أحمد).
«وكفى بك ظلماً ألا تزال مخاصماً» (رواه البيهقي).
«مَن أتاه أخوه متنصلاً فليقبل ذلك محقاً كان أو مبطلا»ً (أخرجه الحاكم).
«ألا أنبئكم بشراركم ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «الذين لا يقيلون عثرةً، ولا يقبلون معذرة، ولا يغفرون ذنباً» (رواه الطبراني).
«صِلْ بين الناس إذا تفاسدوا، وقرِّب بينهم إذا تباعدوا» (رواه البزار).
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن