إقبال قلب
إنَّ الله قد امتنَّ على عباده بمواسم الخيرات، فيها تضاعف الحسنات، وتمحى السيئات، وترفع الدرجات، تتوجه فيها نفوس المؤمنين إلى مولاها.
ومن أعظم العبادات الصيام الذي فرضه على العباد فقال:
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }.
ورغَّبهم فيه فقال: { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .
وأرشدهم إلى شكره على فرضه فقال: { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىمَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }.
وحبَّبه إليهم وخفَّفه عليهم لئلا تستثقل النفوس ترك العادات وهجر المألوفات فقال: { أَيَّاماً مَعْدُودَات }.
ورحمهم، ونأى بهم عن الحرج والضرر، فقال سبحانه وتعالى:{ فَمَنْ كَانَمِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
فلا عجب أن تُقبل قلــوب المؤمنين في هذا الشهر على ربهم الرحيم يخافونه ويخشون عقابه، ويرجون ثوابه.
الصوم عبادة من أجلِّ العبادات، وقربة من أشرف القربات، وطاعة مباركة لها آثارها العظيمة؛ من تزكية النفوس وإصلاح القلوب وحفظ الجوارح من الفتن والشرور، وفيها من الإعانة على تحصيل الأجور العظيمة، وتكفير السيئات المهلكة، والفوز بأعلى الدرجات.
والصوم عمل اختصه الله من بين سائر الأعمال، ففي الحديث القدسي الصحيح عن أَبِي هُرَيْرَةَ ] قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: «قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ؛ إِلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» البخاري.
كفى بذلك تنبيهاً على شرفه وعظم موقعه عند الله مما يُؤْذِنُ بعظم الأجر عليه، فبإضافة الله تعالى الجزاء على الصيام إلى ذاته العلية تنبيهٌ على عظم أجر الصيام، وأنه يضاعف عليه الثواب أعظم من سائر الأعمال، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ] قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
«كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمئة ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ: إِلا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ؛ فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ».
فما ظنك بثواب عمل يجزي عليه الكريم الجواد بلا حساب.
الإخلاص أظهر في الصيام من غيره بين العبادات، فإنه سر بين العبد وبين ربه، لا يطلع عليه غيره، إذ بإمكان الصائم أن يأكل ويشرب متخفياً عن الناس، فإذا حفظ صيامه عن المفطرات ومنقصات الأجر دلَّ ذلك على كمال إخلاصه لربه، وإحسانه العمل ابتغاء وجهه.
من فضائل الصوم أنه من أسباب استجابة الدعاء، و"لعل" في قوله تعالى:
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِفَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }. مما تنبه
هذه الآية على الصلة الوثيقة بين الصيام وإجابة الدعاء.
ومن فضائل الصوم أنه من أسباب تكفير الذنوب، وأنه يشفع لصاحبه يوم القيامة، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ [ قَالَ:
«الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ ربِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهـــَارِ؛ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ؛ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ» رواه أحمد.
شهر رمضان شهر الصبر، فالبناء الأخلاقي أساسه الصبر؛ الذي هو قرين الصوم وسَمِيُّه، حتى سمي الصوم صبراً، كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى: { اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ }.
قالوا: الصوم والصلاة.
ويتجلى البناء الأخلاقي في الرقي بالنفس إلى مدارج العبودية، والتخفف من أوزار الطين وثقل الأرض، لتستشرف النفس آفاق الإيمان، وتستشعر شيئاً من الأنس بالقرب من فاطرها وبارئها، وتسبح في ملكوتها. فالإنسان إنسان بروحه وشفافيته قبل أن يكون إنساناً بجسده:
أقبل على النفس واستكمل فضائلها
فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
ويتجلى في الصيام الإيثار والإحسان ومعايشة آلام الآخرين، ومقاسمتهم السراء والضراء، وذوق شيء مما يجدون، ولئن ذاقه الصائم تعبداً واختياراً فلقد ذاقه الفقراء عجزاً واضطراراً، ولئن عاناه الصائم وقتاً محدوداً فهو عندهم عناء ممدود، ولهذا كان رمضان شهر الزكاة كما سماه سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، ونهايته زكاة الفطر التي يشارك المسلمون فيها الإحساس بفرحة العيد، فلا يَدَعُون أحداً منه إلا وواسوه، حتى فقراؤهم يخرجون زكاة الفطر إن قدروا ليذوقوا طعم الإنفاق ولو مرة في العام.
والصوم يذكِّر المسلم بالجهاد الذي هو حراسة هذا الدِّين، وذروة سنامه، وسطوته على مناوئيه، فلقد كان تاريخه الشهري ملتبساً بالمواقع الفاصلة من بدر تاج معارك الإسلام إلى فتح مكة، التي كانت إيذاناً ببسط سلطانه على جزيرة العرب، إلى حطين، إلى عين جالوت.
هل يعود رمضان الذي عرفه المسلمون ينبض بالروح والحياة والعطاء، وليس بالنوم وضياع الأوقات، والتسابق إلى الملذات، والسهر في الخيام التي ترتكب فيها المعاصي والآثام.
جاء في تفسير قوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }: هذا تعليل لفرضية الصيام ببيان فائدته الكبرى وحكمته العليا، وهو أنه يعد نفس الصائم لتقوى الله بترك شهواته الطبيعية المباحة الميسورة امتثالاً لأمره، واحتساباً للأجر عنده.
فتتربى بذلك إرادته على ملكة ترك الشهوات المحرمة والصبر عنها فيكون اجتنابها أيسر عليه، وتقوى نفسه على النهوض بالطاعات والاصطبار عليها فيكون الثبات عليها أهون عليه.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة