الانفصال بين العبادة والسلوك في رمضان
كتب بواسطة د. سيرين الصعيدي
التاريخ:
فى : المقالات العامة
1543 مشاهدة
يقبل علينا شهر رمضان الخير والبركة كل عام ويقبل الناس فيه على ربهم وكأنّ النفوس من جديد ولدت، فلو نظرت للمساجد لوجدتها موج كموج البحر تموج بالناس صغارًا وكبارًا رجالًا ونساءً، ولو وقفت تحصي الصائمين والمتصدقين والمقبلين على الخير والأعمال الصالحة في هذا الشهر لوجدت أعدادهم في ازدياد عام إثر عام، لكن ثمة معضلة يعاني منها الكثير وعثرة تعترض مسير السالك منا في الطريق إلى الله؛ ألا وهي انفصال عبادة المرء عن سلوكه وكأنهما شخصيتان متباينتان مختلفتان وهذه مشكلة كبيرة بل قل إن شئت مصيبة فادحة وآفة تصيب قلوبنا وأفكارنا كما الآفة التي تفتك بالمحصول الزراعي إن لم يتداركها الزارع.
وهذه الآفة ترافق الكثير منا إلا من رحم الله طوال العام إلا أن رمضان كما المجهر يسلط الضوء عليها واغتناماً لبركات وفضل رمضان تناولنها في هذه الأيام لعلنا نسعى للخلاص ونضع أولى الخطوات على طريق العلاج للشفاء منها في ما تبقى لنا من أيام قليلة.
ومن أهم صور الانفصال بين العبادة والسلوك عدم ترفع بعض الصائمين عن كثير من المحرمات وكأن آذان المغرب تصريح لممارسة ما كان الصائم يمنع نفسه عنها ساعات النهار وإن كان البعض معه ساعات الصيام والإفطار سواء، بل تجد البعض فور الانتهاء من صلاة التراويح يعود لمنزله أو للمقهى دون أن يراعي الله في فضل هذه الساعات من الشهر فيطلق سمعه وبصره ولسانه دون حسيب أو رقيب، فإن نصحته أو ذكرته أجابك ساعة لنفسك وساعة لربك ويتحجج بأنه صام النهار وصلى القيام جماعة وكأنه يمنّ على الله بعبادته أو كأن عبادته منحته صكوك من الغفران ليفعل في ظلها ما شاء، وكأنه قد ضمن منزلته في الجنة أو تيقن بغفران ذنوبه ما تقدم منها وتأخر.
ومن صور انفصال العبادة عن السلوك وهي أكثر ما يدهشك من ممارسات شائعة بين الناس؛ أن تجد بعض الفتيات قد تحررت من حجابها فور انتهاء الصلاة لتخرج من المسجد من دونه، ليداهمك سؤال يجتاح فكرك ويثير دهشتك أليس رب رمضان الذي توجهنا له بصيام النهار وقيام الليل وتكرار الختمات لكتاب الله هو نفسه رب الحجاب وسائر العبادات؟!
أليس رب رمضان الذي توجهنا له بصيام النهار وقيام الليل وتكرار الختمات لكتاب الله هو نفسه رب الحجاب وسائر العبادات؟!
أو ليس رب ساعات الصيام الذي فرض عليك الصوم هو جل شأنه ذاته الجليلة الذي بين لك الحلال والحرام وميز بينهما حتى لا يُشكل عليك بأمر دينك فلا يضل سعيك ، ألم تستوقفهم هؤلاء آية في كتاب الله تكررت تلاوتها على ألسنتهم بعدد ختماتهم الرمضانية فيثير انتباههم ويستدعي تأملهم وتفكرهم بل وارتعاد فرائصهم قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [سورة الكهف: آية 103_104].
إنّ ثمة علاقة وطيدة بين العبادة التي فرضها الله والسلوك الذي يراد من المسلم سلوكه من هذه العبادة، والمتتبع لآيات الذكر الحكيم يجد أنه يرتب على كل عبادة ثمرة على المسلم أن يجنيها في عبادته هذه وخلق يتخلق به ويرسخ في روحه وفكره من أداء هذه العبادة المفروضة، فمثلا الصلاة تنهى عن الفحشاء{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت:45ٍ] وثمرة الصوم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة:183].
فعدم تحقق المراد من هذه العبادة إنما هو مؤشر على ثمة خلل في فهم وتصور المسلم لهذه العبادة، فليس المقصود من العبادات أداء حركات خاوية من المعاني أو تعذيب الإنسان بحرمانه وقت صيامه من طعامه وشرابه، أو إرهاقه بأعمال العمرة أو الحج أو مجرد دراهم نأخذها من خزائن الأغنياء ونردها على الفقراء مجردة من معاني ما فرضها الشارع الحكيم إلا تحققا لها وترسيخها في سلوك الفرد والجماعة، فحكمة الله من فرضه للعبادة أعز وأجل وأعظم من جعلها حركات معينة أو عادات مخصوصة بأزمنة محدودة ، فالعبادة من معانيها طاعة وخضوع وتسليم من العبد للرب ولا تكون العبادة بمعنى العبادة الحقة إلا إذا تحقق الخضوع والطاعة والتسليم في باطن الأمر كما ظاهره، فأي طاعة في عبادة الصوم تأتي بصفته الظاهرة دون أن تسعى وتبذل نفسك وعمرك في إصابة التقوى، وأي صلاة تلك التي تؤدي حركاتها دون أن تمنع جوارحك عن مواقعة المحرمات وارتكابها؟؟!
وقد يسأل سائل ما أسباب التناقض بين العبادة والسلوك؟!
من أهم الأسباب التي ترسخ هذه الآفة وتمكن لها:
1.اعتقاد البعض أن الإيمان في القلب لا شأن له في سلوكيات البشر، فما دام قلبك مؤمن فلا يضيرك ما عملت وما ارتكبت، وتأمل قول الله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [سورة آل عمران:آية31].
ورحم الله الإمام الشافعي إذ يقول:
تعصي الإله وأنت تُظهرُ حبه***هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته*** إنّ المحب لمن يحب مطيع
2. جهل الكثير من المسلمين أثر هذا الانفصال بين العبادة والسلوك وما يترتب عليه من إحباط للأعمال وهبوط بالدرجات في الحياة الآخرة يوم العرض على الله، وأثر هذا الانفصال على المجتمعات وانتشار الرذائل وغياب الفضائل والهوْي بها في درجات الانحطاط، وما واقع مجتمعاتنا اليوم إلا نتاج لهذا الانفصال بين العبادة والسلوك.
3.اتباع الهوى والعزة بالإثم واتباع المرء شهواته وضعفه في مجاهدتها، والله تعالى يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [سورة البقرة: آية206].
4.التعامل مع العبادات على أنها عادات موروثة من الآباء والأجداد، فالنظر للعبادة بهذا المنظور يقلل بل يعدم أثرها على نفسك وروحك فتؤديها بجسدك وروحك وقلبك في واد سحيق، فينعدم أثرها وعظمتها في نفسك فبالتالي لا تتحقق ثمرتها ولا تنعكس نتائجها على سلوكياتك.
بعض الخطوات المقترحة للتخلص من هذا الانفصال:
1. أن تراقب الله في حركاتك وسكناتك وأن الله لا تخفى عليه خافية، وأن تعظم الله ولا تنظر لصغر المعصية ولكن انظر لعظمة من عصيت .
2. مجاهدة النفس وعدم الاسترسال في اتباع خطوات الشيطان، فالشيطان يسلك مع ابن آدم نظام الخطوات مبتدئا بصغائر الأمور ليجرك لكبائرها والله عز وجل يحذرك من عدوك اللدود إذ يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [سورة النور: آية21].
الشيطان يسلك مع ابن آدم نظام الخطوات مبتدئا بصغائر الأمور ليجرك لكبائرها والله عز وجل يحذرك من عدوك اللدود
3. لا تنظر للعبادة ولا تتعامل معها على أنها عادة نشأت عليها في محيط بيتك أو مجتمعك ، بل استحضر أمر الله بها عند كل أداء لها وتذكر أنك تقف في أي عبادة من عباداتك بين يدي الجليل وتفكر لو كلفك رئيسك في العمل بعمل أكنت تقبل أن تقدمه بلا إتقان تخل بمواصفات جودته؟! وأمر الله أحق بالتعظيم فابذل من وسعك أن تؤدي فروض طاعتك ومحبتك له وتقرب إليه ببذلك لتحسين وإتقان عبادتك وأنك ستسأل عن أدق التفاصيل فكن العبد الذي يحرص على إرضاء سيده فقدرك يرتفع بمدى استجابتك لأمره وأداء واجبات عبوديتك وحقه عليك بما يوافق مراده لا بالذي يناسب هواك ومرادك.
4. وقبل كل شيء طلب العون من الله فالقلب بين أصابع الرحمن يقلبه كيفما شاء، فمن أراد الهداية أخذ بأسبابها وانطرح بباب مولاه ولاذ بركنه يطلب العون والسداد فلا حول للعبد ولا قوة له إلا بالله ومن يستهدي يهده الله.
من أراد الهداية أخذ بأسبابها وانطرح بباب مولاه ولاذ بركنه يطلب العون والسداد فلا حول للعبد ولا قوة له إلا بالله ومن يستهدي يهده الله
5. وفي وقوفك في محراب العبودية لله وكل دقائق حياتك بل وعدد أنفاسك تذكر أنك عبد في محراب عبودية سيده ضع نصب عينيك حديث المصطفى: "رب صائم حظه من صيامه الجوع ورب قائم حظه من قيامه السهر" (رواه الحاكم في المستدرك)، واجعل هذا الحديث الشريف ميزان تعرض عليه عملك قبل قيامك في حضرته القدسية، ثم خوّف نفسك من أن يضيع عملك هباء منثورا _إن لم تكن عبادتك وفق مراد الله عز وجل_ واستحضر هول الموقف في حديث رسول الله: "لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا قال ثوبان يا رسول الله صفهم لنا جلهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم قال أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها" (رواه ابن ماجه).
هل تخبط الأمة اليوم وانتشار الموبقات والرذائل والفواحش والكذب وانعدام الأمن وانقلاب الموازين في مجتمعاتنا على الرغم التعداد المتزايد للمسلمين والانتشار الواسع للمساجد والمراكز الإسلامية إلا نتاج الهوة الشاسعة بل والآخذة في الاتساع بين عبادة الفرد وسلوكه
إن هذه العبادات بالغايات التي شرّعت من أجلها إنما هي حبل الصلة بيننا وبين مولانا، وهي سبل التي تقربنا إلى الله وعلى محكها يميز بين المحسن والمسيء فمن أداها كما أراد الله كانت سببا في فلاحه ونجاته وارتدت بأثرها الحسن والايجابي على المجتمع بأسره إن سعى في إتقانها كل فرد من الأفراد، وهل تخبط الأمة اليوم وانتشار الموبقات والرذائل والفواحش والكذب وانعدام الأمن وانقلاب الموازين في مجتمعاتنا على الرغم التعداد المتزايد للمسلمين والانتشار الواسع للمساجد والمراكز الإسلامية إلا نتاج الهوة الشاسعة بل والآخذة في الاتساع بين عبادة الفرد وسلوكه، فإن كنا نحسن ونبالغ في التملق في سلوكاياتنا أمام بشر يعلونا درجة في العمل أو مركز ما، أو ليس الباري والمحسن والخالق لنا ابتداء أحق من أن نحسن سلوكياتنا ونتأدب ونتخلق بأخلاق العبادات التي افترضها علينا؟!
اللهم تقبل أعمالنا واجعلها حجة لنا لا علينا.
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!