وماذا بعد رمضان؟
كتب بواسطة د. سيرين الصعيدي
التاريخ:
فى : المقالات العامة
1421 مشاهدة
تمر الأيام سراعاً وكما في كل عام يرتحل عنا رمضان الخير مسرعاً بعدما حلّ في ديارنا كغيمة محمّلة بالغيث أروت زروعنا وأينعت برحماته قلوبنا، فكان بمثابة الواحة في طريق المسافر يأوي لظلالها متزوداً منها لمتابعة مسيره، ارتحل رمضان ولفراقه لوعة تقطع نياط القلب ووحشة تئن تحت وطأتها الروح؛ فبركاته لا تعوض وأثلاثه المقسمة بين الرحمة والمغفرة والعتق من النيران أنّى لنا أن نجدها في غيره من الشهور؟!
ومع كل إطلالة لرمضان تولد نفوس جديدة وتُبعث أخرى من تحت ركام المعاصي والملهيات، ورمضان في أيامه المعدودة إن هو إلا حاضنة للمولود الجديد في نفوسنا يمده طوال ساعاته بما يحتاجه من أسباب دوام الحياة ، حتى إذا أذنت غروب شمس آخر يوم من أيامه انقطعت أنابيبه الواصلة بحضانة المواليد الجدد فيتعرض هؤلاء لانتكاسة ويدق جرس الإنذار إذ ثمة خطر يحدق بحياتهم!
فالبعض لا يصمد مولوده فيلفظ أنفاسه فور غروب آخر يوم من رمضان إذ كان لا يتنفس ولا يتغذى إلا بما يمده به رمضان، فلم تترك أيام رمضان ولا لياليه أثراً في نفسه فما كان له من حظ في رمضان إلا أنه وجد الناس يحسنون فأحسن فولج باب العبودية في رمضان مع الوالجين فيها فطبيعة أجواء العبادة أخذته في رحابها.
والبعض ينتكس كانتكاسة المريض التي تستدعي حالته لدخول وحدة العناية المكثفة لتركيز جرعات الدواء وتعهد سبل الحياة وتعزيزها، وقسم آخر بضاعته مزجاة يخلط عملا صالحا بآخر سيئاً فلم يبلغ جهاز المناعة عنده من القوة ما يجعله يصمد بوجه ما يهاجمه من أمراض، وقلة قليلة يبقى رمضان في قلوبهم يمدهم بكل أسباب الحياة وإن ارتحلت أيامه فمعانيه في نفوسهم باقية لأنهم يدركوا حقيقة أن الجليل الذي وقفوا في محراب عبوديته في رمضان بقيت أسبابه موصولة بهم في باقي الشهور ما غابت آثاره عنهم فهم يعبدون رب رمضان ابتداء لا رمضان بذاته.
هذا الواقع الذي يتقلب الناس فيه بعد رمضان فالمساجد تئن من مفارقة المصلين فيها والمصاحف ترزح تحت وطأة الغبار ولا نعود نسمع آيات الذكر ترتل في الشوارع والأسواق والمواصلات وإنما إن سمعت ففي بيوت الأجر وسيارة نقل الموتى هذا هو الواقع الذي لا ينكره أحد ولا ينجو منه غلا من شملته الرحمات الإلهية.
ويبقى السؤال يطرق الفكر ويؤلم القلب: لماذا يهوي الكثير منا بعد رمضان ويتعثر بل ويسقط، لماذا أيامه الثلاثون فور انتهائها تنقطع أنفاسنا وتتوقف عن المسير إلى الله؟! وكأنّ رمضان كان للبعض منا مجرد قيد قُيّد به عن انتهاك الحرمات حتى إذا ما انقضت أيام الشهر الفضيل انكسر هذا القيد وانفلت صاحبه منه يتخبط هنا وهناك دون أن يراقب الله في تصرفاته وسلوكياته، لماذا لم نتزود من نفحات رمضان ونستثمرها في التأسيس لدوام حياة قلوبنا وأرواحنا؟!
الإجابة على ما سبق من أسئلة تدور في أذهاننا حول تردي أحوالنا مع الله بعد رمضان وانتكاس هممنا في السير إلى الله وتعثر خطانا في الطاعات والسقوط في المعاصي إنما يختصر في عبارة واحدة أننا في رمضان عظمنا رمضان ولم نعظم الذي فرض رمضان علينا، راعينا حرمة رمضان ولم نراعِ قدر الله وعظمته، استحيينا من رمضان ولم يترسخ الحياء في قلوبنا من رب رمضان لذا أطعناه في رمضان وعصيناه في باقي الشهور.
إننا قد عظمنا رمضان ولم نعظم الذي فرض رمضان علينا، وراعينا حرمة رمضان ولم نراعِ قدر الله وعظمته، واستحيينا من رمضان ولم يترسخ الحياء في قلوبنا من رب رمضان لذا أطعناه في رمضان وعصيناه في باقي الشهور
ما سبق تشخيص لطبيعة ما يعترينا بعد رمضان، فما السبيل لتجاوز هذه العثرات وللخروج من دوامة تقلب الأحوال وتجاوز الهوة السحيقة بين حالنا في رمضان وسائر أحوالنا في باقي العام؟!
على المسلم الذي سلم زمام أمره لله وأدرك أنه مهما ارتفع شأنه ما هو إلا عبد لله لم ولن يتجاوز مقام العبودية تحت أي ظرف وفي أي مكان وزمان عليه أن يراعي الأمور التالية في نفسه ومن حوله:
1. أن يتيقن المسلم أن الطريق إلى الله شائك تحفه المكاره والصعوبات يحتاج لمجاهدة نفس ومكابدة ولا يستقيم لإنسان أمر مهما كان سواء من أمور الدنيا أو الآخرة إلا ببذل الوسع والجهد ، بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: آية69] وقوله صلى الله عليه وسلم: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" (رواه مسلم).
2. أن يرسخ المرء في نفسه حقيقة ويداوم على مخاطبة نفسه بها أن ربي ورب رمضان وسائر الشهور هو الله الذي يطلع علينا ويسمعنا ويبصرنا في كل زمان ومكان فيتوجه بذلك تعظيمنا لله لا لزمان ولا للمكان فربهما واحد وعظمتهما من عظمة الله إذ جل شأنه من فرض علينا تعظيم هذا وذاك، إذ يقول جل شأنه: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [سورة الحج: آية32]، فالمعنى من (فإنها من تقوى القلوب) أي: فإنها من وجل القلوب من خشية الله، وحقيقة معرفتها بعظمته وإخلاص توحيده. (تفسير الطبري).
على المرء أن يرسخ في نفسه حقيقة أن رب رمضان ورب سائر الشهور، هو الذي يطلع علينا جميعنا ويسمعنا ويبصرنا في كل زمان ومكان فيتوجه بذلك تعظيمنا لله لا لزمان ولا للمكان
3. أن يستغل الساعات والأيام المخصوصة بالأفضلية كيوم الجمعة والاثنين والخميس وغيرها من أوقات من شأنها أن تُبقي على الأسباب الموصولة بقلب العبد مع ربه، فيستغلها لتجديد عزم إيمانه وتقوية إرادته وإرواء ظمأ روحه ومنها يتزود لمتابعة مسيره.
4. أن يتذكر دائما في خلقه وفي بعثه فقد خُلق وحيداً ويُبعث وحيداً ويُحاسب وحيداً فهذا من شأنه أن يجعله يوطّن نفسه على أن يحسن في كل حالاته ويتذلل ويتقرب إلى الله ويتواضع إن أحسن ويؤوب ويجدد توبته إن أساء وأخطأ، فلا يعلق طاعته على طاعة من سواه فإذا أحسن الناس أحسن وإن أساؤوا وقصروا أساء وقصر، فلا تضره معصية بشر ولا تزيده طاعتهم، إذ يعلق طاعته بالله فيطيع ويمتثل لأن الله أمر ويجتنب لأنّ الله نهى.
5. أن يتبرأ من حوله وقوته إذ لا حول له ولا قوة إلا بالله، فما من محسن أحسن وأطاع بكياسته ولا من أمر نفسه، بل إن الله الموفق والمتفضل عليه بأن يسر له سبل طاعته وأذن له من الدخول باب الطاعة هذا وذاك ولطف به وأحال بينه وبين المعاصي، فيلزم نفسه بذلك باب سيده ومولاه يمد يد الرجاء ويستغيث بكل نبضة من نبضات قلبه وبكل نفس من أنفاسه أن يمده جل شأنه بالعون فييسر له سبل طاعته ويجنبه المعاصي والفتن ما خفي منها وما ظهر.
وعلى هذا يكون حال المسلم طوال عمره يتقلب بين الرجاء والخوف يعظّم الله في نفسه فيظهر أثر ذلك على جوارحه، فيكون بذلك المسلم الرباني الذي يوافق مراد الله في سكناته وحركاته وليس المسلم الرمضاني الذي ينزجر برمضان وينطلق بعده بعتو وغرور أو حتى بفتور وقد نسي شأنه وحقيقة أمره وغاية خلقه ووجوده.
نسألك اللهم الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد.
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة