على رسلك يا ابنتي
كتب بواسطة نورا عبد الغني عيتاني
التاريخ:
فى : بوح الخاطر
2502 مشاهدة
وكبرتِ يا مريم، وصرتِ تتقنين اللهوَ واللعبَ دوني... كبرتِ وصرتِ تشردين.. وترسمين وتكتبين، وتقرئين وتنشدين...
كبرتِ وما عاد باستطاعتي أن أحملكِ وأسير بك، وأذرعَ الأرض بكِ جيئةً وذهاباً.. كبرتِ وصار لك قراراتكِ واختياراتكِ الفريدة من نوعِها.. غدَا لك أصحابٌ وأصدقاء، يسألون عنكِ، ويتّصلون بكِ.. كبرتِ يا مريم، وصار لعينيكِ البرّاقتين ذاكَ الاتّساع المبهم الذي لطالما خشيتُ منه.. وتلك النظرةَ الباشقةَ الواجمةَ حين تحلّقُ ناحية المجهول، وتسألُ عن كلّ همسةٍ ولمسة.. كبرتِ وما عدتِ بحاجةٍ ليدِي.. يدي التي كانت تدفعُك، حينما تتأرجحين.. يدي التي كانت لكِ تلكَ الوسادةَ الدافئة التي لطالما تعلّقتِ بها، طيلةَ عامين كاملَين، وعامَين بعد..
كم كنتُ أحلمُ أن يطولَ صغركِ بعد يا صغيرتي.. كم كنتُ أحلمُ لو بقيتِ تلكَ الطفلةَ الضاحكةَ المغناج التي كانت تمطّطُ حروفَ الكلام، ولا يكفُّ ثغرُها عن الابتسام.. كم كنتُ أحلمُ لو بقيتِ تلكَ الطفلةَ الشقيّةَ المخرّبة، التي تملأُ حيطانَ البيتِ غبطةً وبهجةً وألوانا.. كبرتِ يا مريم، ولو أنّك مازلتِ صغيرةً في وجداني، لكنّ عقلكِ صارَ عقلَ صبيّةٍ قد بدا يتفتّح كالزهر، وصرتُ أخافُ عليكِ من طعناتِ الغدر...
كبرتِ يا مريم، وآه لو أمكنني أن أحيطَ طفولتكِ الهاربة تلكَ بكاملِ قلبي. آه لو بإمكاني يا ابنتي أن أحتضنها بكلتا ذراعيّ لئلّا تضيع.. على رسلكِ يا ابنتي.. تمهّلي ولا تستعجلي؛ فالوقتُ أمامكِ طويلٌ طويل..
الوقتُ طويلٌ، وهناك متّسعٌ آمنٌ للوقتِ والأحلام.. فظلّي أميرتي التي لطالما أحبّت غذائي، وتعلّقت بردائي.. وظلّي شقيّتي التي لطالما استمالها لون الجنون وحبُّ الشغب..
هاأنتِ اليومَ تكبرين، وتنطلقين، وتسرعين.. وكلّما خطوتِ خطوةً في رحلةَ العمرِ السريع، أراكِ عنّي تبتعدين أكثر.. كم صرتِ بعيدةً يا ابنتي.. ليتها تعودُ تلكَ اللحظاتُ الطفوليّةُ الرهيفة.. وليتكِ بقيتِ تلك الطفلةَ العنيفة.. فعودي وصفّقي واصرخي وخرّبي كما شئتِ، واملئي البيتَ ضجيجًا وكركبةً وإزعاجا.. لكن لا تفارقي تلكَ البسمة التي طُبعت على خدّكِ الناعمِ الأسيل.. ولا تفارقي تانكَ الغمّازتين.. اطبعيهما بمرحٍ على كلّ حقلٍ وأرضٍ وروضةٍ تزورينها..
كوني الوردةَ النديّة النابضةَ التي لا تعرفُ الذبول.. صمّي آذانكِ يا ابنتي عن وطأةِ العالمِ المرير، عن قسوةِ الواقعِ الزائف وبشاعةِ الأمرِ الراهن.. كوني حلوتي التي لطالما ألبستُها وضممتُها وشممتُها كما اللُعَب.. أما زلتِ تذكرين؟.. حينَ كنتُ أجمع كلّ الثياب وأضعُها على السرير، وأنتِ لم تتجاوزي شهرين من العمرِ بعد.. كنتِ الدمية التي لطالما انتظرتُها بشغف.. ألبسُها فستانًا إثرَ فستان، وألتقطُ لها الصورةَ تلو الأخرى.. وأمشّط شعرها الناعمَ الخفيفَ اللطيف على مهلٍ لئلّا أجرح جلدةَ رأسها الطريّة.. كيف كبر رأسكِ يا صغيرتي وقسا؟
مرّت سريعًا تلكَ الأيّام الحلوة الخاطفة، كسرعة البرق مرّت سريعًا، لم أشعر بها.. على رسلكِ يا ابنتي، ما لي أراكِ على الكبر تستعجلين؟ خذي نفسًا عميقًا وتمهّلي، فالوقتُ لازال طويلًا طويلًا، وأمامكِ متّسعٌ من الوقتِ.. فعلامَ تستعجلين؟ على الأحلام؟ ليتكِ تفهمين.. غدًا تدركين، أنّكِ اليوم تسكنين وتتنعّمين في عقر دارِ الأحلام..
أتعلمين؟ كلّما تقدّمَ بنا العمر، ورأيتكِ تكبرين أكثر، شعرتُ بوجلٍ غريبٍ في العمق، وبرعشةٍ في القلب لستُ أدركُ سرّها.. أتراكِ يا ابنتي تفرّين منّي مع مضيّ الوقت فراراً؟ أتراكِ حقًّا تفلتين يدي عمدًا وتسيرين وحدكِ لتقتفي أثر الحياةِ الهاربة؟ سيري برفقٍ يا حبيبة، واقطعي الأشواطَ هَونًا على بركةِ اللهِ.. على رسلكِ سيري، لكن لا تشردي.. ولا تقطعي حبلكِ عن يدي.. هاكِ يدي خذيها معكِ، لئلّا نُضيعَ الوقتَ أكثر، لئلّا نَضيع..
أذيبي يدي في حنايا يدك، وامضي بخفّةٍ وأمان؛ لكن ظلّي قريبة.. واتركي لي تلك الطفلة الرائعةَ الوديعةَ النائمةَ بحضني، لا تأخذيها.. علّها تواسيني في رحلةِ العمر الطويل.. ثمّ عودي وانثري عليها شيئًا من جمالِ روحكِ الدائم وإشراقَ عينيكِ، لتوقظيها من جديد...
المصدر : الألوكة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!