عودة ظاهرة الإعدامات بالجملة في مصر
في الرابع والعشرين من مارس 2014 روعت مصر والعالم كله، بصدور حكم قضائي بإعدام أكثر من خمسمائة مواطن مصري، في قضية ما عرف بالاعتداء على مركز شرطة مطاى وقتل العقيد مصطفى رجب نائب، مأمور المركز، والشروع في قتل شرطي وضابط وإطلاق الأعيرة النارية والاستيلاء على أسلحة مركز الشرطة، ومرت الواقعة في محاكمة سريعة لم تستغرق أكثر من جلستين، وقد أثار الحكم فزعًا عالميًا كبيرًا، وعرض السلطة المصرية الجديدة لإحراج كبير، لأن العالم نظر إلى الواقعة كحالة وحشية لا مثيل لها في عالم اليوم، وعلقت صحف عالمية كبرى على الحكم بوصفه حكمًا سياسيًا للتنكيل بأعضاء جماعة الإخوان المعارضين للسلطة الجديدة، أو الذين ينازعونها في شرعية الحكم، ووقع القضاء المصري يومها تحت ضغط شديد، وأصبحت سمعته على المحك، وكان من حسن الحظ أن محكمة النقض قررت إلغاء الحكم وإعادة القضية إلى محكمة جديدة، واختفى من يومها المستشار سعيد يوسف رئيس محكمة جنايات المنيا، التي أصدرت الحكم، ولا يعرف حتى الآن مصيره أو موقعه في منظومة العدالة .
وفي العام 2014 نفسه، نظرت محكمة جنايات المنيا واقعة ما عرف بقضية "العدوة" والتي وجهت فيها التهمة للمئات باقتحام مركز شرطة مدينة العدوة وحرقه وقتل رقيب شرطة، وفي 21 يونيو من العام 2014 قضت محكمة جنايات المنيا جنوب مصر بإعدام 183 شخصًا بينهم مرشد الإخوان محمد بديع، وكان من بين المحكومين اثنان من المواطنين المسيحيين، منهم المواطن بباوي مكرم نجيب مرقص، كما كان بينهم كفيف لا يرى، وبينهم طفل وآخران من الموتى الذين تقدم ذووهم بوثائق وفاتهم للمحكمة، ومن حسن الحظ ـ هذه المرة أيضًا ـ أنه عندما عرض الحكم على محكمة النقض أبطلته وقررت إعادة المحاكمة من جديد، وأكدت أن المحكمة أهدرت حقوق المتهمين في وجود محامين للدفاع عنهم اكتفت بمذكرات قدمها بعضهم كما أثبتت بعض المخالفات من نوعية ما سبقت الإشارة إليه، كالحكم بالإعدام على طفل وهو ما يحظره القانون المصري أصلاً.
واليوم، الأحد 29 يوليو 2018 قررت محكمة جنايات المنيا، المنعقدة بمعهد أمناء الشرطة بطره، نظر قضية "العدوة" نفسها، بنفس الوقائع، ونفس المتهمين، ونفس شهادات الشهود، قررت إحالة متهم واحد فقط اسمه مبروك سعد، لفضيلة مفتي الجمهورية، بما يعني الحكم بإعدامه، بما يعني أن مرشد الإخوان ومائة واثنان وثمانون مواطنا آخر، سبق للمحكمة أن قضت بإعدامهم رأت المحكمة أنهم لا يستحقون الإعدام، وما بين الحكم بإعدام شخص واحد فقط والحكم بإعدام 183 شخصًا في القضية نفسها، مساحة واسعة ومخيفة في تباين التقديرات للقاضي، تجعل التساؤل مطروحًا حول منطقية أن يكون الاجتهاد في "العدالة" يمكن أن يسمح بهذا الاختلاف الرهيب .
هذه النوعية من الأحكام تطرح بعدًا دينيًا وأخلاقيًا آخر، لأن تلك الأحكام لا تصدر إلا بعد استطلاع رأي مفتي الجمهورية، وبالتالي فلنا أن نتصور موافقة مفتي الجمهورية على قتل أكثر من مائة وثمانين نفس بريئة وتستبيح دمها، لولا أن قيض الله لهم محكمة النقض لتنقذهم من حبل المشنقة، ولعل مثل تلك الوقائع وتكرارها تجعلنا ندعو إلى إعادة النظر في آلية دور مفتي الجمهورية في أحكام الإعدام، خاصة وأن محكمة النقض لا تتعرض لرأي المفتي، ولكنها تتعرض لإجراءات المحكمة نفسها، لكن في كل الأحوال، فإن جرأة مفتي البلاد على الموافقة على شنق مائة وثمانين نفس بريئة يصبح محلاً للتساؤل والنقاش .
من ألطاف الله بمصر أنه عندما قرر المستشار عدلي منصور ـ عامله الله والتاريخ بما يستحق ـ إنشاء محاكم خاصة لمحاكمة المعارضين، تحت عنوان "دوائر الإرهاب" وهي التي صدر عنها كل تلك الأحكام المثيرة للجدل، كان هناك توجه لتشكيل دائرة خاصة أيضًا في محكمة النقض لتعرض عليها تلك الأحكام، ولكن الجمعية العمومية للنقض يومها رفضت ذلك، واعتبرته إخلالاً بمبدأ العدالة، وكان هذا الرفض ليس فقط حماية لآلاف الأبرياء من القتل المجاني، وإنما أيضًا إنقاذًا لسمعة النظام نفسه، الذي كان سيحمل مسئولية إعدام أكثر من ألف مواطن في عامين فقط .
كانت أحكام الإعدام بالجملة قد اختفت ـ بعد تلك الوقائع ـ فترة ليست بالقليلة، ولكن يبدو أنها عادت لتطل علينا من جديد، بعد الحكم الجديد الذي أصدره المستشار حسن فريد بإحالة خمسة وسبعين مواطنًا مصريًا من المحسوبين على جماعة الإخوان ومن قياداتهم للمفتي، بما يعني الحكم بإعدامهم ، وهو خبر محزن بكل المقاييس، ويدعونا إلى إعادة النظر في فكرة دوائر الإرهاب من أساسها ، كما تدعونا إلى إعادة النظر في فرضية إلغاء أحكام الإعدام ولو مؤقتا في مصر ، أسوة بدول أخرى كثيرة ، في ظل تجاذبات سياسية عنيفة، لأنه من الواضح أن الاجتهادات في الأحكام فضفاضة بشكل كبير، فهناك من يحكم بإعدام مائة وثمانين مواطنًا وهناك من يحكم بتبرئتهم أو إلغاء حكم إعدامهم والحكم على بعضهم بأحكام أخرى مخففة، فأن تخطئ في تبرئة أو تخفيف حكم ألف شخص خير من أن تتورط في دم شخص واحد بريء.
وأملنا يتجدد في محكمة النقض التي ستنظر أحكام الإعدام الجديدة، وأن تأمر بإعادة المحاكمة، وأملنا الأوسع أن تعود العدالة الحقيقية الشاملة إلى ربوع مصر ، وأن تظلل هذا البلد الذي عانى الإنسان فيه طويلاً من الظلم والاستباحة.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة