لا يغرنّك طول لحيتي
جاء رجل الى الإمام القاسم بن محمد - رحمه الله تعالى - أحد الفقهاء السبعة التي كانت تدور عليهم الفتوى في زمانه في مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن مسألة؛ فقال القاسم: لا أحسنُها، فجعل الرجل يقول: إني رفعت إليك لا أعرف غيرك، فقال القاسم: لا يغرنك طول لحيتي وكثرة الناس من حولي!، والله ما أحسنها، فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي الزمها؛ فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم، فقال القاسم: والله لأن يُقطع لساني؛ أحب إلى من أن أتكلم بما لا علم لي به.
هكذا كان حال السلف الصالح وغيرهم من علماء وحكماء الإسلام وفخره، يمسكون ألسنتهم ولا يحدثون إلا لضرورة ليس لهم منها بدّ، رغم احتوائهم وتشبعهم من علمٍ وأدبٍ وفقه، حتى قال عنهم أحد أشهر فقهاء المالكيَّة في عصره الإمام سحنون بن سعيد التنوخي في كتاب سير أعلام النبلاء "كان بعض من مضى يريد أن يتكلم بالكلمة، ولو تكلم بها لانتفع بها خلق كثير، فيحبسها، ولا يتكلم بها مخافة المباهاة. وكان إذا أعجبه الصمت تكلم، ويقول: أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علما".
كم من فتاوى وتأويلات فاسدة بصبغات سياسية سلطانية في زماننا هذا لتبرير الفعل أو وقوعه أو حتى ما تفكر في فعله للخروج بثوب ملائكي نقي وكأن شيئاً لم يكن
كَثُر الكلام والنفاق والخداع على الله بغير علم إنّ لم يكن بعلم في زماننا المؤلم هذا، وأصبح كلُّ من هبَّ ودبَّ، يتكلَّم ويفتي في أمور العامّة والخاصّة، والتي لو عُرضت على ابن القيم لعَرضها على شيخه ابن تيمية ولو سُأل الامام مالك عنها لقال لا أدري! تخرج علينا منظمات ومؤسسات فكرية ودينية بدعوى تحقيق رؤية إنسانية للدين، منفتحة على آفاق العلم والمعرفة ومكتسبات الإنسان الحضارية فينهار أمينها أخلاقياً بكذبه وافتراه وما علم أنه "إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ"، وآخر يقسم على القرآن، وبعدها ينادي بتساوي الإرث بين الرجل والمرآة ويقول "ليس لنا علاقة بالدين أو القرآن أو الآيات القرآنية"، تحت حجة الدولة المدنية!، وآخر "ملحدٌ في الحرمّ ومُبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية، يطلب دم أمرئ بغير حق ليهرق دمه" وما علم أن حرمة دم المسلم أعظم من الكعبة حجراً حجرا.
فقهاء بلاط، سفهاء أحلام، دعاة عصرنة إسلام، بضاعتهم مزجاة في الأخلاق قبل الإيمان، يتطاولون على رواسخ الدين والعقيدة، يخطّئون ويبدعون ويفسفسون بلا علم ولا دراية، يتحايلون بفتاوى وأحاديث مصنوعة على طبق من ذهب من أجل حفنة من المال او المنصب أو الجاه، لا يُفرِّقون كما يقولون بين حمَّالة الحطب ولا حمَّالة الورد، ولا بين أصلٍ وفرع، وهم في كل وادٍ يخوضون ويلعبون، "وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا..." ينظرون إلى الرياسة، ويحبون كثرة الجمع والثناء والجاه. فشتانّ بينهم وبين علماء الآخرة .
نماذج عدة في زمان العزة ذكرها وخلدها التاريخ في ظل عصرنة الاسلام ودعاة السلاطين فالقارئ في تراجم العلماء الشرفاء سيعرف مقدار المحن والابتلاءات التي تعرضون لها ، أذكر منها ما تعرض له الامام مالك عندما كان يفتي الناس أنه لا يقع طلاق المكره ويحدث الناس بحديث "ليس على مستكره طلاق" في زمان أبو جعفر المنصور مؤسس الدولة العباسية ، فلم تكن تعجب هذه الفتوى العباسيين لأنه لو أكره إنسان على مبايعة إمام معين فإن هذه البيعة تكون غير شرعية!، فله أن يتحلل من بيعته، فأمر الخليفة مالكاً بالنهي عن الحديث بهذا الحديث، ثم دس إليه من يسأله، فقام مالك وحدّث به على رؤوس الناس فضُرب مالك بالسيّاط وجلد أربعين جلدة، وضربوه حتى أصابه هذا الضرب في يده؛ فكان يحمل إحدى يديه بالأخرى وينادني: ألا من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي وأنا أقول: طلاق المكره ليس بشيء.
افهم الفرق بأن تعامل نصرة دينك وعقيدتك على أنها ككمالية من الكماليات وأن تتعامل معها على أنها القضية الكبرى في حياتك، افهم الفرق من أن تظن نفسك ملك نفسك وبأن تظن نفسك أنك قد اشتريت
فكم من فتاوى وتأويلات فاسدة بصبغات سياسية سلطانية في زماننا هذا لتبرير الفعل أو وقوعه أو حتى ما تفكر في فعله للخروج بثوب ملائكي نقي وكأن شيئاً لم يكن. ونموذج آخر في زمان هارون الرشيد عندما قدم الى المدينة، وجه البرمكي وزير هارون الرشيد حينها إلى مالك رحمه الله، وقال له: احمل إلى الكتاب الذي صنفته (يقصد الموطأ) حتى أسمعه منك، فقال مالك للبرمكي "أقرئه السلام وقل له: إن العلم يزار ولا يزور!" فرجع البرمكي إلى هارون الرشيد، فقال له يا أمير المؤمنين أيبلغ أهل العراق إنك وجهت إلى مالك في أمر فخالفك! أعزم عليه حتى يأتيك، فأرسل إليه فقال: قل له يا أمير المؤمنين لا تكن أول من وضع فيضّيعك الله" وهذا إن دل فإنه يدل على فقه عميق تشبع به. فالبرمكي هنا نظرية خبيثة للزعامة في واقع الحياة.
"ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا خازنا"، نحن في زمان الفتنة والتمحيص فالقابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، فليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا كيف نجا؟! فالناكصون على أعقابهم أضعاف أضعاف من اقتحم العقبة! ولا تستغرب كثرة الهالكين، فالله وحده اعلم بمن يستحق الهداية، "أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا". أيها العالم.. أيها الداعي.. أيها الفقيه.. دعواك بأخلاق قبل علمك، أنت مطلوب منك إخضاع الواقع ليكون جارياً على مقتضى الشرع، لا مسايرته وموافقته ولو جرى على خلاف المشروع فمواكبة التغيرات لا تكون بمخالفة أحكام الله وشرعه. فافهم الفرق بأن تعامل نصرة دينك وعقيدتك على أنها ككمالية من الكماليات وأن تتعامل معها على أنها القضية الكبرى في حياتك، افهم الفرق من أن تظن نفسك ملك نفسك وبأن تظن نفسك أنك قد اشتريت.. "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
فالله الله يا من يريد حفظ دينه، ويوقن بالآخرة، فإيّاك والتأويلات الفاسدة، والأهواء الغالبة؛ "فإنك إن ترخصت بالدخول في بعضها، جرك الأمر إلى الباقي، ولم تقدر على الخروج لموضع ألف الهوى فاقبل، واقنع بالكسرة، وابعد عن أرباب الدنيا، فإذا ضج الهوى؛ فدعه لهذا، وربما قال لك: فالأمر الفلاني قريب! فلا تفعل؛ فإنه ولو كان قريبًا يدعو إلى غيره، ويصعب التلافي. فالصبر الصبر على صعب العيش والهجر عن أرباب الهوى والسلاطين، فيصعب إتمام دين إلا بذلك، ومتى وقع الترخص؛ حمل إلى غيره، كالشاطئ إلى اللجة وإنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، ووجه أصبح من وجه؛ وإنما هي أيام يسيرة."
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة