الموج الماكر
كتب بواسطة رامي أحمد ذو الغنى
التاريخ:
فى : قصص
2275 مشاهدة
كان المنظر ساحرًا، فخيوط الفجر الأولى قد شقَّت ظلامَ الليل، ولا تسمعُ إلَّا أذانَ الفجرِ يأتيكَ من مناراتِ المدينةِ البعيدة، يشهدُ لله بالوحدانيَّة، ويدعوك لفلاح الدُّنيا والآخرة. تُجاوبُه أمواجُ البحر الهادئةُ مع كلِّ مدٍّ وجَزْرٍ، تُؤذِنُ العالَمِين بعظمة خالقها ومبدعها، ونسَماتٌ بحريَّةٌ باردةٌ تُنعِشُ النفسَ وتُحيي الفؤادَ، تُبشِّرُ بالخير والسَّعد. والنَّهر الذي وصل إلى مصبِّه مُنهَكًا من طُول سَعيه وجَرْيِه قد زاد المشهد روعةً وجمالًا، وكلُّ ما حولك يسبِّح الله تعظيمًا وإجلالًا، وكلَّما أسفرَ الفجرُ؛ أظهرتِ الدُّنيا من فتنِها ما يُغريك ويُلهيك؛ لتخرجَ من محراب التَّأمُّل والتَّبتُّل مستجيبًا لنداءات النَّفس البشريَّة.
وما إن ملأتِ الشَّمس الكونَ دفئًا وضياءً حتَّى دبَّتِ الحياةُ في الشَّاطئ، وانتشر النَّاس على طُوله ما بين لاعبٍ وسابح، والموجاتُ النَّاسكاتُ في الفجر انقلبْنَ إلى غانياتٍ لاهياتٍ يخلُبْنَ لُبَّ الحازم. ومراكب الصَّيد قد رجعت محمَّلةً بالرِّزق الوفير، وقد التفَّ حولها الرِّجال والأطفال، يشاهدون شِباك الصَّيد وسِلال السَّمك، ويستمعون إلى أهازيجِ الصيَّادين، ويردِّدون معهم بقوَّةٍ وحماسةٍ لا تقِلُّ عن قوَّة صغارنا وحماستهم في توسُّلهم من أجل النُّزول إلى الشَّاطئ بعد أن ملُّوا المراقبةَ عن بُعدٍ من شُرفةِ النُّزُل.
خلَّفْنا النِّساء يُعدِدنَ الإفطارَ، وانطلقنا إلى وِجهتنا حيث يبغي الأولاد، وهم في تَوقٍ شديدٍ لاقتحامِ البحر، والخوضِ في غِماره، وقد أعدُّوا للأمر عُدَّتَه، وتحمَّلوا بأدواتهم وألعابهم، وجوهُهم تفيض بالبِشر والسُّرور، وضَحِكاتُهم تُرفرف في الفضاء، وتنشر السَّعادة والهناء. لم يعترِهم تردُّدٌ أو خوفٌ من الولوج في البحر، فما إن لامسَتِ المياه أقدامنا حتَّى بدأت معارك التَّراشُق بالماء، ولم تنتهِ إلَّا برفع الكبار الرَّايةَ البيضاء إرضاءً للصِّغار. وما زلنا نتقدَّم بهم حتَّى غمرَنا الماءُ إلى أكتافنا، وهم يَطْفُون على سطح البحر بأطواق السِّباحة.
تعمَّق أبو عمرَ مُتفنِّنًا بأنواع السِّباحات، وأنا رجعتُ بالأولاد قريبًا من الشاطئ، فلستُ بذاك السَّبَّاح المتقن للعَوم، والأطفالُ قَيدٌ لا أستطيع الانفكاكَ منه. وفي غَمرة سعادتنا كنت أجد في نفسي انقباضًا لا أعرف له سببًا، ولا أجدُ له مسوِّغًا! فأستعيذ بالله من كلِّ شرٍّ، وأُدافعُ ذلك الإحساسَ المزعجَ بالنظر إلى وجوه الأطفالِ باسمةً فرحة، ثمَّ أُردِّدُ النَّظر إلى أبي عمرَ، وقد خاض في البحر يشقُّ عُبابَهُ وحيدًا، مرَّةً يغوصُ فلا أراه، وأخرى يتمدَّدُ على ظهره، وثالثةً يسبح سباحةَ متسابقٍ يريدُ الظَّفرَ في ألعابِ السِّباحة الأولمبيَّة.
كنَّا في مَنأًى عن النَّاس، قد ابتعَدنا عنهم غيرَ بعيدٍ؛ نبتغي السَّلامة، فلا نسمعُ غناءَهم وطربَهم، ولا نستنشقُ دُخانَ (أراكيلِهم). نراهم ويرَونَنا، وليس ثمَّة ما يؤذي البصر؛ فالشَّاطئ مغلقٌ و(المُنتجَع) أُسريٌّ، ورُوَّادُه من الأُسَرِ المحافظة، والوقت في غير موسم اصطيافٍ، فلا زحامَ ولا تكشُّف، وذلك من فضلِ اللهِ علينا وعلى النَّاس.
وبعد أن أمِنتُ على الأولاد وقد تباعدُوا نحو الشَّاطئ، همَمتُ باللَّحاق بأبي عمر لأُونِسَهُ وأنافسَهُ، وما أنا له بندٍّ ولا منافس، وما إنِ التفَتُّ إليه مستدبرًا الشَّاطئ حتَّى تملَّكنيَ الرُّعبُ؛ فارتفاعُ البحر في الأفُقِ البعيدِ يُنذِرُ بالخطر! أشرتُ إليه فظنَّني ألوِّحُ له بالسَّلام، فلوَّح بيديه يردُّ التحيَّة، ناديتُه فلم يسمَع، أشرتُ إليه أن ينظرَ خلفَه فلم يلتقطِ الإشارة. سبَحتُ نحوَه وسبحَ نحوي، وعندما التقينا كان التيَّارُ الجارف قد عمل عمله، ونحن في وسَطه لا حولَ لنا ولا قوَّة. استمسَك أحدُنا بالآخَر نحاول الثَّبات والنَّجاة، لكن هيهاتَ هيهاتَ، نسبحُ فنشعرُ أنَّنا نُراوح بالمكان، لم تلطِمْنا الأمواجُ ولم تهدِرْ في آذاننا غاضبة، بل كانت قوَّةً ناعمةً ماكرةً تسحبنا إلى عُرضِ البحر رويدًا رويدًا، ونحن لا نعي ما يجري، ولا ندرك أننا نبذُل جُهدًا مهدُورًا، ونحاول دون جدوى! حتَّى وصلنا إلى شَفا الهَلَكةِ والغرق، فرفعتُ عقيرتي بشهادة التَّوحيد (لا إله إلا الله محمَّدٌ رسولُ الله)، وشعرتُ أنَّ صوتيَ قدِ اخترقَ الفضاء فسمعه أهلُ السَّمواتِ والأرضِ! وتراخَت يدي عن يده، فافترقنا دون تَشاور، وتباعدنا دون وَداع، وغاب عن بصَري، فلا أدري عنه ولا يدري عنِّي.
وحيدًا في دُوَّامة الخوف والفزع أستقبلُ الموتَ وأودِّعُ الحياة، رفعتُ رأسي فرأيت الشاطئ بعيدًا بعيدًا، يئستُ من بلوغِه، وأيقنت أنَّ أحدًا لن يراني، فليس ثمَّةَ إلا الماءُ والسماء. تبرَّأتُ من حَولي وقوَّتي، وسألتُ ربِّيَ الخيرَ حياةً أو موتًا، ثمَّ تمدَّدتُّ باستسلامٍ على بطني، فلا قوَّةَ لديَّ أنقلبُ بها على ظهري، ووَكَلتُ الأمرَ إلى الله. ولم أرفع رأسي بعدها ولم أعرف ما جرى لي، كيف لعبَتِ الأمواجُ بالجسدِ الطَّافي؟ أَقلَّبَتهُ ظهرًا لبطنٍ وبطنًا لظهر، أم كانت رفيقةً به شفيقةً عليه؟ أَدفعَتهُ نحو الشَّاطئ لتُنجيَهُ، أم استمرَّت في سحبه إلى عُرض البحر؛ ليكونَ طعامًا للأسماك والحيتان؟
أسئلةٌ كثيرةٌ لا أعلم جوابَها، وكلُّ ما أعلمُه أنَّ معيَّةَ الله وحفظَه كانت مع الجسَدِ الطَّافي، وصاحبُه في غيابٍ عن الوعي لا يدري ما يُفعَلُ به بين الأمواج.
الأولادُ على الشَّاطئ ثلاثةٌ؛ بنتان وصبيٌّ صغيرٌ دونَ التَّمييز، أصابتهم المصيبةُ بأشدِّ ما تُصيبُ طفلًا أراد اللَّهوَ واللَّعبَ في كنَفِ ذَويه، فباغتَهُ البحرُ بابتلاعِهم على مَسمَعٍ ومرأًى منه، وكنتُ للصغير خالًا، وكان أبو عمرَ للبنتين عمًّا. هبَّت الكبرى بعَويلها تطلبُ النَّجدةَ من رجال الشَّاطئ، والصُّغرى أَودَعَت عمرَ عند أوَّلِ أُسرةٍ لَقِيَتها، وركضَت نحو النُّزُلِ تخبرُ النساء.
وانتشر الخبرُ بين النَّاس: غَرقى في عُرض البحر! وانطلقَت زوارقُ الإنقاذ، وتطوَّع بعض الشَّباب والرِّجال، وشاء الله أن أكونَ الأقربَ إليهم، أمَّا أبو عمرَ فلا عينٌ ولا أثر.
انتشلَني المنقذون وأنا فاقدُ الوعي، ولما اقتربنا من الشَّاطئ ضربَتنا موجةٌ قلَبتِ الزَّورقَ بمَن فيه، ثمَّ أعادوه وانتشلوني مرَّةً أخرى، وعندئذٍ استعدتُّ وعيي، وسمعتُ صوتًا يقول: احمَدِ اللهَ الذي نجَّاك! احمَدِ اللهَ الذي نجَّاك! ثمَّ اختلطَتِ الأصواتُ في مَسمَعي، فلا أَمِيزُ ما يُقال، وكأنِّي أستيقظُ من نومٍ عميقٍ رأيتُ فيه كابوسًا وأهوالًا وفظائع، ولا أزال بين النائمِ واليقظان.
ثمَّ سمعتُ أصواتَ نساءٍ ورجالٍ وبكاءَ أطفال، فمِن قائلٍ: ماتوا، الله يرحمهم! إلى قائلٍ: بل هو يتحرَّك، وصاحبه مفقود! إلى صوتِ امرأةٍ تسألُ اللهَ رفعَ البلاءِ. همهمةٌ ودمدمةٌ وصياحٌ، دُوَّامةُ أصواتٍ كادت أن تُفقدَني وعيي مرَّةً أخرى، تنزلُ على سمعي كالمطارق، وأنا محمولٌ من يديَّ ورجليَّ حتَّى رمَوني على الرَّملِ رميَ المتاعِ بلا لُطفٍ ولا تُؤَدة.
تجمَّعَ النَّاسُ حولي، وبقيتُ على ظهري ممدَّدًا لا أستطيع حَراكًا، مغمضَ العينين، لا أنبسُ ببنتِ شَفَة، يسألني المنقذون: من كان معك؟ أخبِرنا يا رجل! فأسمع ولا أجيب، وأنَّى ليَ الإجابة؟! فالألمُ قد استبدَّ بكلِّ خَليَّةٍ من جسَدي من أخمَصِ قدمي إلى مَفرِق رأسي، لا أستطيعُ وصفَه ولا التعبيرَ عنه؛ أوجاعٌ لا أعرفُ كُنْهَها تجعلني عاجزًا عجزًا تامًّا، حتَّى جُفوني كانت تؤلمني فلا أقدِر على فتح عينيَّ. ثمَّ سمعت صارخهم: أخرجوا الماء من بطنه، فقلبوني رأسًا على عَقِب، وخرج من جوفي ماءٌ خِلتُ أنَّه البحرُ كلُّه، ثم ضغطوا بطني برجلَيَّ في حركاتٍ متتاليةٍ حتَّى شعرتُ أنَّ مَعِدتي ستخرج مع الماء، وازداد وعيي وارتدَّ إليَّ شيءٌ يسيرٌ من قوَّتي، فقدرتُ أن أقولَ لهم: كان معنا أولاد.
انكبَّ عليَّ المنقذُ وصرخ فزِعًا: معكم أولاد! كم عددُهم؟ ما أعمارُهم؟ أبناتٌ أم صبيان؟
وعادَ الهرجُ والمرجُ بين النَّاس، وكدتُّ أتمزَّق من أسئلتهم، والألم يعتصِرني اعتصارًا، حتَّى انسربَ في سمعي صوتُ امرأةٍ خافِتٌ: الولدُ معي، والبنتُ راحت تخبِّر أهلَها.
فسرَّى الله عنِّي بقولها، وتزاحمَت في خَلَدِي أسئلةٌ كثيرة:
ما حالُ أمِّي؟ كيف ستتلقَّى الخبر؟ وما أثرُه فيها؟
وأختي؟ آه يا أختي!
أين زوجُك؟ وما فعل الله به؟ أناجٍ مُسلَّمٌ أم غريقٌ صرَعَته الأمواج؟
كان ذلك حديثَ نفسٍ مرهقةٍ معذَّبةٍ عَملت فيها الآلام أشدَّ ممَّا عَملت في جسدي. ثمَّ زاد اللَّجَبُ وعجَّ النَّاس عَجيجًا، فعلمت أنَّ المفقود قد وصَل، ألقَوه على الرَّمل كما ألقَوني قريبًا غيرَ بعيد، وسمعتُ قائلَهم: لا تضيِّعوا الوقت معه فهو في نَزْعه!
حاولت أن أنقلبَ لأراه فعجَزتُ، فأعانني أحدُهم وقلبني على بطني فلمحتُه!
لهفي عليك يا أبا عمر!
لهفي عليكِ يا أمَّ عمر! قد ترمَّلتِ وأنتِ في عزِّ الصِّبا!
لهفي على يُتم الأولاد! يا حسرةً عليهم!
في تلك اللَّمحة الخاطفة رأيت الموتَ في وجهه، قدِ اصفرَّ جسَدُه كلُّه، وانتفخ انتفاخًا مرعبًا، وله حشرجةٌ تقول للسَّامعين: إنَّ للموت لسكرات! إنَّ للموت لسكرات!
تحت شُرفة النُّزل توقَّفَت يارا الصغيرةُ عن العَدْو، وقد رأت أمِّي في الشُّرفة تضع أطباق الطَّعام على الطَّاولة، فصرخَت بأعلى صوتها: خالة ناديا خالة ناديا ... ابنك رامي وعمِّي محمَّد غرقوا!
طفلةٌ مفجوعةٌ قدِ استولى عليها الذُّعر، وتخطَّفها الخوف، تنقل الرُّعبَ كما رأته، والفزعَ كما واجهته، بلا توريةٍ أو تعريض، ولا تسليةٍ أو تصبير.
وقعتِ الكلمات في سمع أمِّي فأنكرَتها، ورأت يارا بعينيها فتجاهلتها.
ثوانٍ مرَّت كدهرٍ بين تصديقٍ وتكذيب، وإنكارٍ وإقرار، وإقدامٍ وإحجام، انتهت بتمتمةٍ من شفتَين مؤمنتين: حسبيَ الله ونعم الوكيل، ثمَّ تجلبَبَت بجِلبابها، وركضت نحو الشَّاطئ، كظبيةٍ تريد أن تدركَ شادنَها قبل أن يفترسَه الموت.
على الرَّمل الدَّافئ جثَت عند رأسي، ثمَّ رفعَته بيديها ووضعَته في حَجْرها، فشعرتُ أنَّ حنانَ أمَّهاتِ الأرض كلِّهنَّ قدِ اجتمع في يديها، لم تتكلَّم أيَّ كلمةٍ ولم تسأل أيَّ سؤال، وضعَت يدها على جبيني، وشرعت تهمس بالقرآن، فأحسَستُ برُوحٍ جديدةٍ تنساب في جسَدي، وسَكينةٍ تتنزَّلُ عليَّ، وخشعَتِ الأصواتُ من حولنا حتى كادت تنقطع؛ إلا أصواتَ المتَّصلين بالإسعاف، وحشرجةَ أبي عمر.
عمرُ وابنتا عمِّه لحقوا بأختي في النُّزُل، وانطلق بنا الرِّجال نحو سيَّارة الإسعاف، أنا محمولٌ على الأكتاف، وأبو عمرَ على النَّقَّالة، ثمَّ رمَونا بسيَّارةٍ واحدة، وجعلوني على أرض السيَّارة بلا وِقاءٍ ولا غِطاء، وأبقَوا أبا عمرَ على نقَّالته، وركبت أمِّي معنا، والممرِّض يهمِسُ في أُذن السَّائق: (الزلمة خالص)!
أطلقَت سيَّارة الإسعاف صفيرها المدوِّي، وتوجَّهت نحو مستشفى الباسل في طَرَطُوس، واستبشَرتُ بذلك خيرًا، فمستشفى الباسل في دمشقَ مجهَّزٌ بأحدث الأدوات والأجهزة الطبِّيَّة، والعناية فيه جيِّدةٌ بل ممتازة، وتوقَّعتُ أن أجدَ الفرع الطَّرَطُوسيَّ كالدِّمشقيِّ، لكنْ شتَّانَ شتَّان!
طال الطَّريق، ولم نصِل حتى كاد ظهري يتكسَّر، فما من حُفرةٍ إلَّا عرَّجَت عليها سيَّارة الإسعاف، وما من (مِطَبٍّ) إلَّا قفزت من فوقه بسرعةٍ تجعل الرَّاكبَ يطير في فضائها، ثمَّ يضرب أرضَها بجسَده. ولم يقدِّموا لنا في الطَّريق أيَّ إسعاف، فحالتي مستقرَّةٌ وحالة أبي عمرَ ميئوسٌ منها بزعمهم.
أدخلونا إلى قسم الإسعاف، وحوَّلوا أبا عمرَ إلى (العناية المركَّزة)، وأنا إلى قسم الصَّدريَّة في دَورٍ عُلويٍّ بعيدٍ عن قسم العناية، وقبل ذلك أعطَوني حُقنةً في الوريد، شعرت بها أن جميع أعصابي تنبَّهت، ثمَّ جاء ممرِّضٌ لطيفٌ مع رجلِ أمنٍ، فأعطيتهم بعضَ المعلومات الشَّخصيَّة مُخفيًا حقيقةَ تخصُّصي في الشريعة الإسلاميَّة؛ إبقاءً على نفسي، وخوفًا من حقد حاقدٍ لا تُحمَد عُقباه!
قلت لهم: إنَّني مدرِّسٌ للُّغة العربيَّة، وكذلك كنت، وأخبرتهم بسبب الحادث، فانصرفوا عنِّي وتركوني مغطًّى بالرِّمال، كأنَّني تمثال! وبقيت ما شاء الله أن أبقى حتى رجعَت أمِّي من (العناية المركَّزة) لتصعدَ بي إلى غُرفتي، فاعترضَها ممرِّضٌ وقال: هيهات! لا بدَّ من إزالة الرَّمل أوَّلًا.
خُيِّلَ إليَّ أن غرفة الاغتسال هي غرفة غسيل الموتى، فانقبضَت نفسي، وأبيتُ إلَّا الاغتسالَ واقفًا في غرفةٍ قَميئةٍ مظلمةٍ كان الاغتسالُ فيها لونًا من ألوان العقوبة، فليس ثمَّة إلا صُنبورٌ واحدٌ قد انقطع خُرطومه، يسيل الماء منه ضعيفًا بطيئًا، ولا بدَّ من مَلْء قدَحٍ كبيرٍ وسكب الماء على طريقة الاستحمام في الزمن الغابر، وهذا يحتاج إلى وقتٍ طويل، فالرَّمل قد غطَّى جسَدي، ودخل بين شعري وبشَري، والتَّعب والألم قد أخذا منِّي كلَّ مأخذٍ، وليس لي إلا الصَّبر عُدَّةً وعَتادًا.
وصلتُ إلى قسم الصَّدريَّة أبتغي الرَّاحة، فكان دونَها خَرطُ القَتاد، فأنبوب الأكسجين لا يتدلَّى كما في كلِّ المستشفيات ليستقرَّ على أنف المريض فينتعش، بل هو قصيرٌ لا يصلُ إلى أنفي إلا إن حمله حاملٌ وأبقاه مشدودًا، وليس ثمَّة متطوِّعٌ لذلك إلا أمِّي. أمَّا سريري الذي كنتُ ممدَّدًا عليه فكأنَّهم جعلوه على هيئةٍ لعَطْبِ البدَن؛ فالفِراش من وسَطه محدَّبٌ غليظٌ سبَّبَ لي ألمَ الظَّهر. وبين (العناية المركَّزة) وقسم الصَّدريَّة أدراجٌ كثيرة، ومِصعَدُ المرافقين معطَّل، وكانت أمِّي تذرَعُ الأدراج صعودًا وهبوطًا، والله يُنزل من المعونة على قدر البلاء.
بقينا في العناء واللَّأواء حتى جاءت أختي بأوراقنا الثُّبوتيَّة، وعلموا أن أبا عمرَ طبيبٌ، فعاملوه معاملةَ الزَّميل، وحصلنا على امتيازاتٍ خاصَّة، أحسنها أنهم أنزلوني إلى قسم (العناية المركَّزة) لنكونَ معًا، فتستريحَ أمِّي من الصُّعود والنُّزول على أدراج المستشفى، وحصَلتُ أيضًا على وسائدَ إضافيَّة، فكأنَّني انتقلت من فندق النَّجمة ونصف النَّجمة إلى فندق النُّجوم الخمسة.
وتحسَّن حالُ أبي عمرَ، وخيَّب الله ظنَّ المنقذين والممرِّضين، وتجاوز مرحلةَ الخطر، ثمَّ أبلَّ، وخرجنا إلى النُّزُل، لنجدَ أسماءنا منشورةً في الجريدة الرسميَّة مع أسماءِ آخرين تعرَّضوا لما تعرَّضنا له، منهم من مات غريقًا، ومنهم من نجا كما نجَونا بفضل الله ورحمته، وانهالت الاتِّصالاتُ علينا من القريب والبعيد مهنِّئين ومطمئنِّين.
ولامَنا كلُّ من سمع بخبرنا من أهل طَرَطُوسَ في المستشفى، وثرَّبوا علينا السِّباحةَ في البحر والأعلام الحُمْر مرفوعةٌ على الشاطئ تحذِّر من تيَّارات البحر، وما كنَّا نعلم دَلالةَ الأعلام ولا سمعنا عنها من قبلُ.
ثمَّ مكثنا أيَّامًا في النُّزُل نتقوَّى قبل أن نسافرَ إلى دمشقَ، لا نستطيع فيها الأكلَ أو الشُّرب، فالمعدة قد تأذَّت من ماء البحر، ولا يستقرُّ فيها طعامٌ ولا شراب.
وفي كلِّ صباحٍ من تلك الأيَّام، كنت أجلس على الشُّرفة أتأمَّل البحر وأتفكَّر فيما جرى لنا، وما منَّ الله به علينا، فيلهَجُ اللِّسان بحمده والثَّناء عليه، فالحمد لك ربِّي على ما قضَيت وقدَّرت، وأولَيت وأنعمت.
الحمد لك ربِّي أن وفَّقتني إلى شهادة التَّوحيد إذ واجهتُ الهُلك، وربطْتَ على قلبي فاستسلمَ لأمرك وأنا مستقبلٌ الموتَ آيسٌ من الحياة.
والحمد لك ربِّي أن جعلتني ابنًا لامرأةٍ عظيمة، لم يُنسِها خبرُ غرَق ابنِها جِلبابَها، وأنزلتَ عليها من السَّكينة فكانت أقوى من مئة رجل، معتصمةً بذكرك وكلامك.
والحمد لك ربِّي أن متَّعتَنا بأبي عمرَ ومَنَنتَ عليه بالنَّجاة والعافية. وحفظتَ أولادنا، فما ضاعوا، وردَدتَّهم إلينا في خير حالٍ ومآل.
والحمد لك ربِّي أن علَّمتني علمًا لا يدركه حقَّ الإدراك إلا من جرَّب مثل تجرِبتي، علَّمتني كيف يسحب موجُ البحر المرءَ بتيَّاره الجارفِ دون أن يشعر، ففهمت تشبيهَ الفتن التي تموج موجَ البحر في سُنَّة نبيِّك صلَّى الله عليه وسلَّم فتسحبُ المفتونَ دون أن يشعر.
والحمد لك ربِّي أن منحتني حياةً من بعد ما كاد الموتُ يتخطَّفني، فاجعلها حياةً طيِّبةً في رضاك؛ عامرةً بذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك.
المصدر : الألوكة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة