كاتبة
التعليم .. منهج حياة
كتب بواسطة ثناء أبو صالح
التاريخ:
فى : قصص
3002 مشاهدة
دخلتْ غرفة المدرسات وقد احتقن وجهها حتى بلغ احمراره أذنيها ..
ألقتْ بدفاتر الطالبات على مكتبها وهي تزفر، ثم انهدّت على كرسيها وأخفتْ وجهها بكفيها وانخرطت في بكاء عميق .
كانت الغرفة خالية إلا مني ومنها، وكنتُ قد لاحظتُ انفعالها لكني لم أنبس بكلمة إذ أدركتُ مدى حاجتها إلى الانفراد بنفسها، فتظاهرتُ بالاستغراق في عملي..
لحظات وهدأتْ فقامت تغسل وجهها بعد أن غسلت دموعها ما في نفسها، تركتها حتى هدأتْ تماما ثم سألتُها : الطالبات مرة أخرى ؟
هزت رأسها وبقيت نظراتها معلقة بالفراغ.. همستُ برفق : أعانكِ الله .. وكأنها كانت تنتظر مني هذه الكلمة لتنطلق كلماتها شاكية مرّة .. ولتعلن في النهاية : لقد قررتُ الاستقالة .
قلت : هلا ناقشنا الأمر معا بروية وهدوء ؟
أجابت بحدة : أي نقاش ؟ وهل تركت هؤلاء الطالبات لنا أعصابا تحتمل النقاش ؟ لا .. لقد عزمتُ وانتهى الأمر .
قلت : إذن نؤجل النقاش إلى وقت آخر .. وعدتُ إلى عملي وتركتها في وجومها .
***
كانت صفية معلمة صغيرة السن، حديثة التخرج، ملتزمة هادئة خلوقة، أُسند إليها تدريس مادة الدين للمرحلة المتوسطة – حيث الطالبات في أوج المراهقة وقمة الانطلاق وشدة التعلق بالشغب – فعانت صفية من تصرفاتهن الكثير، وزاد الأمر سوءا إحراج بعضهن لها بطرح أسئلة فقهية معينة ( خاصة ) كانت تُفاجئها فتتلعثم وترتبك حياء، وهي تحاول إيجاد الجواب المناسب لأعمارهن، بينما هنّ يتغامزن ويضحكن وقد حققن مرادهنّ من السؤال، وتعلو الضحكات كلما ازداد حرجها، وترتفع الضجة فلا تدري كيف تضبطهن، فيرتفع صوتها صارخا مؤنبا .. وتُمضي بقية الحصة على أعصابها تلقي بدرسها كيفما اتفق، وترفض الرد على الأسئلة حتى ينتهي الوقت فتخرج مسرعة كأنها تهرب من عاصفة .. وهكذا صارت المهنة التي حلمت بها، عبئا ثقيلا وهما رازحا فوق صدرها، كتم أنفاسها وأحال ضياء الأمل في نظرها ظلاما، وجعلها تندم عشرات المرات على اختيارها هذه المهنة ( التعيسة ).
***
في نهاية اليوم الدراسي وجدتُها تنتظرني في غرفتنا، سألتُها : لعلك الآن بخير ؟
ارتسم طيف ابتسامة على الوجه المرهق، وهمستْ : نعم .. هلا منحتني بضع دقائق ؟
جلسنا لتبادرني بالسؤال عن مدة عملي كمعلمة، ولما عرفت أنها جاوزت العشرين سنة، هتفت بدهشة : عشرون ؟؟ وما زلت تعملين في التدريس ؟
أجبت بابتسامة : هي مهنتي .. وقد أحببتها
= ولكن كيف ؟ كيف استطعت احتمال تصرفات الطالبات كل هذه السنوات ؟ أشعر بالحصة أني وسط مجموعة عفاريت..لا يمكن أن يكنَّ بشرا أبدا.. ألا تشعرين بذلك ؟
- أحيانا.. لكني مع الأيام تعلمت كيف أتعامل معهن، نحن اخترنا مهنة التعليم، وهي مهنة شاقة حقا، وعلينا أن نوطن أنفسنا على متاعبها و...
قاطعتني : نعم التعليم شاق، ولكن ما تفعله الطالبات الآن شيء لا يحتمل، بربك هل كنا نحن كذلك ؟
- كل جيل له محاسنه ومساوئه، ولكن هل جرّبتِ أن تعرفي لمَ يتصرفن هكذا في الحصة ؟
= جربتُ وأكثر من مرة، وكنّ يفسرن سؤالي ضعفا ويزددن شغبا وإهمالا
- عفوا .. ما قصدتُ أن تتجهي إليهن بالسؤال مباشرة، فهذا فعلا يجعلك في موقف الضعيفة الحائرة التي لا تدري ما تفعل، ويفقدك الهيبة والاحترام و..
قاطعتني بحيرة : إذا كيف أعرف ماذا يردْن ؟
= تذكري مراهقتك .. كيف كنت فيها تتصرفين وتفكرين
أجابت بنزق : كنت هادئة همي الدراسة وما كنتُ أبدا مثلهن
- وبالتأكيد كانت معك زميلات مثلهن، كما أن طالباتك الآن لسن جميعا متمردات مشاغبات .. يا عزيزتي .. أحاسيس المراهقة ومشاعرها وتفكيرها وطاقتها واحدة، في جيلي أو جيلك أو هذا الجيل.. لكن أسلوب التعبير عنها اختلف بحكم اختلاف البيئة وانتشار وسائل الإعلام و...
قاطعتني بحدّة : وما ذنبي أنا في ذلك كله ؟
= أنت لا ذنب لك، لكنك معلمة ومربية.. وتأكدي أني لا ألتمس العذر لهن، لكني أشفق عليهن.. فنحن أمام واقع ملموس محزن – شئنا أم أبينا – واقع مؤلم يحتاج بذل الكثير من الجهد والتفكير والحب ومزيد الحب لتغييره، وأول خطوة في تغيير هذا الواقع ..البدء بأنفسنا
وباستنكار هتفت : أنفسنا ؟!!
= نعم .. اسألي نفسك لماذا اخترت هذه المهنة ؟ للعائد المادي ؟ أم للإسهام بصدق في تعليم وتربية جيل واعٍ يقدّر العلم ويسعى له ؟
- صدقيني لم يكن همي المال أبدا، وكنت أحلم بالتعليم والتوجيه ولكن هؤلاء الطالبات ..
ربتُّ على كتفها مطمئنة وقلت : همّ الطالبات مقيم بين جنبيك، وإلا ما تأثرت من تصرفاتهن كل هذا التأثر، ولكن التقويم دائما أشق من البناء، وسنلاقي الكثير من المشقة والعناء ونحن نحاول الوقوف في وجه السيل المنحدر.. إلا إذا شحذنا الهمة بحسن التوكل على الله وصدق الإداء وبذل المزيد من التفهم والحب .
= كلامك صحيح، وهذا ما أتوق إليه، ولكن ما أظن شيئا ينفع مع طالباتنا اللواتي جئن للتسلية والعبث
- صدقيني إن شعرت الطالبة بمقدار حبك ورغبتك في نفعها ستستجيب لك، فما يخرج من القلب لا يد أن يجد له مكانا في القلب، جربي أن تبدئي معهن بداية جديدة، امزجي العلم بقليل من الدعابة والمرح، وتحلّي بسعة الصدر والصبر، ولا تهملي الرد على السؤال المحرج، فهو من صميم ديننا وفقهنا، وإن لم تجد الطالبة الجواب عندك ستبحث عنه من مصادر أخرى قد تكون خاطئة..فقط ميزي الجادّة في السؤال من العابثة، وأهملي الأخيرة بحزم
أطرقت لحظة تفكر ثم قالت : أتدرين .. ما أظن الطالبة التي تسأل هكذا تريد الإجابة، وإلا لماذا لا تلجأ إلى أمها ؟؟
= لعلها تخشى سؤال أمها، أو لعلها سألت ولم تحظ بجواب مقنع، أو لعل أمها حوّلتها إليك كما تفعل أمهات كثيرات .. أو لنفرض أنها سألتك لتحرجك، عليك أنت كمعلمة أن تجدي للسؤال جوابا صحيحا مقنعا.. التعليم يا صفية ليس مجرد معلومات نحفظها لاجتياز اختبار أو مرحلة، التعليم باختصار " منهج حياة " ونحن في عملنا نعلّم ونتعلّم، وسنة تلو أخرى تزداد تجاربك وخبراتك وتصبحين الملجأ الأمين لكل مراهقة، ولا يرضين عنك بديلا .
***
ومضى زمن على حوارنا، وتألقت صفية مع الأيام في مهنتها، وصارت - كما توقعتُ لها – ملجأ الطالبات يجدن فيها خير موجّهة ومربية .
ثناء أبوصالح
من مسيرة التعليم
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن