إنها حقّاً ملكة
التاجُ تاج العِفة والوقار، والقصْر أرض ذات فِجاج وسماء ذات أبراج، وسرير الملك في قلوب كل الأحرار.
ربما كانت ابنة وجوه المتعبين الكادحين، لكنها ملكة…
ربما أثقلتها الهموم ومادتْ بها الأزمات، لكنها ملكة…
ربما لا تذكر من سنوات عمرها غير التنغيص والوجع، لكنها ملكة…
هي ملكة لأنها ابنة الإسلام…
النعمة العظمى والهبة الكبرى، فهل هناك مُلْكٌ يَحوزه بشرٌ أعظم قوة واتساعا من عقيدة صافية تُخالط بشاشتها القلوب؟
هي تعرف من أين جاءت، ولِمَ جاءت، وأين المصير، لا كشأن طلاسم الحائرين المُتخبطين في تفسير علاقة الإنسان بالكون، ومِنْ ثَمَّ ترى:
أن السعادة أن تعيش لفكرة الحق التليد
لعقيدة كبرى تحلُّ قضية الكون العتيد
وتجيب عما يسأل الحيران في وعي رشيد
من أين جئت؟ وأين أذهب؟ لِمَ خلقتُ؟ وهل أعود؟
إنها ملكة لأنها تعيش في كنف العبودية لله رب العالمين، فلا لغير الله سجدت، ولا بغيره استغاثت، ولا على سواه توكلت، تتعالى على قيود الأرض، ويخضع قلبها وجوارحها لمولاها، يهزها الشوق إذا ما سمعت {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}، يقينها أنها سجدة تُغبِّر الجبين، ولكنها تحمل معها قيمة الحياة:
سجدةٌ تُخفض الجِباه ولكن….
عزَّ فيها مُسبِّحٌ وتَعَالى…..
هي ملكة بالإيمان بربٍ يدافع عن الذين آمنوا، يحفظهم بمعيِّتِه ويصنعهم على عينه التي لا تنام، فمهما حملت المقادير من بلاء تقلَّبَ وجهها في السماء، فمؤمنةٌ هي زوجة فرعون التي دعت {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، فعذبها فرعون أشد العذاب، فكشف الله لها مقامها في الجنان، فماتت وهي تضحك غير عابئة بالألم.
ومؤمنةٌ هي مريم أم المسيح، حدثت المعجزة فكان الزرع بغير بذر، وحملت على عِفّتها بكلمة كن، فكان المسيح كلمة الله، لما جاءها المخاض واكتنفتْها الوحدة والألم وخوف الألسنة، أتاها ما يربط على قلبها ويؤنسها ويشد عزمها {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}، وعلى مسمع ومرأى القوم نطق الرضيع مُبرِّئًا أمه العفيفة {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}.
وتلك مؤمنةُ بيتِ النبوة عائشة التقية الطاهرة الصدّيقة بنت الصدّيق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته في الدارين عائشة، لما نالت منها الألسنة ورماها المبطلون في عرضها، عصفت بها المحنة وآوت إلى ركنٍ شديد، إلى ربّ ليس بينه وبين دعوة المظلوم حجاب، فقالت كما قال يعقوب {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}، فبرّأها الله من فوق سبع سموات، وظل ويظل نصُّ البراءة يُتلى حتى يرفع الله كتابه {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ }.
إنها ملكة، تستغني عما في أيدي الناس، تسأل الله أن يكفيها بحلاله عن حرامه وبطاعته عن معصيته وبفضله عمّن سواه، ولأنها حرة، تجوع ولا تأكل بثدييها، مُجافية لقوادح الشرف، وتلك لغة تفهمها الحرائر، منهن كانت هند بنت عتبة لما جاءت تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا تشرك بالله ولا تسرق ولا تزني، تعجبت قائلة: “أو تزني الحرة يا رسول الله”؟.
هي ملكة بمكانتها التي وضعها الله فيها، فليست هي تلك المرأة لدى الرومان التي كانت سلطة الرجل لديهم تبيح بيعها ونفْيها وتعذيبها وقتلها وسلب ممتلكاتها، بل كانوا يضعون على فمها قفْلا يمنعها من الكلام، تذهب وتغدو وتعيش على هذه الحال انطلاقا من اعتقادهم بأنها مصدر الشرور.
وليست هي المرأة عند اليهود التي كانت بمثابة خادم لرجالهم، ويحْرُم عليها الميراث..
وليست هي المرأة في المجتمع العربي الجاهلي التي كانت هملًا ومتاعًا، وتُنصب لها خيمة في الصحراء إذا حاضت حتى تنتهي حيضتها.
وليست هي المرأة عند الهنود في شريعة “مانو” التي لم يكن لديها حق الحياة بعد وفاة زوجها..
وليست هي المرأة في القانون الإنجليزي إلى عام 1805م، إذ كان للرجل حق بيع زوجته…
وليست هي المرأة التي كانت تُقدَّم كقرابين إرضاءً للآلهة المزعومة، كما كانوا يفعلون في مصر عندما كانوا يزينون فتاة لإلقائها في النيل، وكما جاء في تاريخ اليونان حين حُبس الجيش في ساحل البحر أشهرًا لا يستطيعون ركوب السفن بسبب الرياح، فما كان من رئيس الكنيسة إلا أن أمر بتقديم ابنة الإمبراطور قربانًا لآلهتهم.
ليست هي المرأة التي استحقرها أفلاطون حين قال: ” إن وجود المرأة أكبر منشأ ومصدر للأزمة والانهيار في العالم”.
وليست هي المرأة التي أجْفحتْ الثورة الفرنسية مكانتها وأصدرت قانونا ينص على أن المرأة ليست أهلا للتعاقد دون رضا وليها إن لم يكن لها زوج.
لكنها في الإسلام ملكة…
فسورة من طوال السور تألفت من 176 آية سُميت “النساء”، بينما لم تُسمّ سورة بـ “الرجال”….
ولو أنها ملكت كنوز الأرض لكانت نفقتها على وليها، ولها مالها وملكيتها الخاصة لا تنازع فيهما..
ومجموع الحالات التي ترث فيها تزيد عن الحالات التي يرث فيها الرجل، غير أن أعداء الدين سلطوا الضوء على قوله تعالى {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، دون النظر إلى الحالات الكثيرة التي ترث فيها المرأة باعتبارها ابنة أو أمًا أو زوجة أو أختًا..، فهذا التمييز ليس عامًّا في جميع الأحوال التي ترث فيها المرأة، بل حالات محدودة، فهناك ما يزيد عن ثلاثين حالة تأخذ فيها المرأة مثل الرجل أو أكثر منه، مقابل أربع حالات مُحددة ترث فيها المرأة نصف الرجل.
إنها ملكة بذلك التشريع الذي يحفظها ويُنظم حياتها من المهد إلى اللحد، فيأمر القرآن باحترامها عندما تأتي إلى الدنيا ويعيب على أقوام سخطهم على إنجاب الإناث {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}.
ثم يُوجّه الشارع إلى حسن تربيتها ورعايتها كقول النبي صلى الله عليه وسلم (مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ، كُنَّ له ستراً من النار).
وكوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال بهن خيرًا فقال: (اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا).
وجعلهن الإسلام في التشريعات مع الرجال سواسية إلا في أمور محدودة يحدث فيها التفريق مراعاة للجبلة والفطرة والقدرة والتكوين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما النساء شقائق الرجال).
وعدّ من يموت في الدفاع عنهن شهيدًا فقال (ومن قُتِل دون أهله فهو شهيد).
كانت المرأة في الإسلام عالمة ومتعلمة، طبيبة وشاعرة، تخرج إلى ساحات الجهاد، تعالج الجرحى وتسقي الجند، وتبث فيهم الحماس.
هي ملكة، هبت من أجلها جيوش الإسلام، وعقدت لها ألوية الجهاد، فامرأة مسلمة انكشفت عورتها في سوق قينقاع بمكيدة يهودية، جعلت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ينهضون لحصار يهود بني قينقاع.
وامرأة مسلمة لُطِمت في أرض الروم فصرخت: “وامعتصماه” جعلت الخليفة المعتصم يُسيِّر جنوده ليدكَّ “عمورية” ملبيًا النداء.
إنها ملكة في ظل الإسلام، مهما حاول المغرضون التشكيك في هذه الحقيقة، ومهما حاولوا إغواءها لتتحلل من قيمها وتتنصل من هويتها وتتمرد على منهجها..
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
المصدر : هوية برس
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!