الأهم من الحديث عن انهيار الحضارة الغربية
كتب بواسطة السنوسي محمد السنوسي
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
1860 مشاهدة
كثيرة هي تلك الكتابات التي تتحدث عن انهيار الحضارة الغربية، وأن موعد أفولها قد آن، وساعة رحيلها قد اقتربت.. ولا تقتصر هذه الكتابات على المناهضين للغرب فحسب، بل يكاد يكون أبناء الحضارة الغربية أنفسهم هم أول وأكثر من يتحدث عن الأزمة التي انتهت إليها تلك الحضارة.
وفي كتابه الضخم (رؤية الفوضى.. استطلاعات عن انحسار الحضارة الغربية)- وقد زادت ترجمته على خمسمائة صفحة، وصدرت عام 2016 عن المركز القومي للترجمة بمصر- يستعرض “ب.ج. براندر” رؤى أكثر من أربعة وعشرين مفكرًا حذَّروا من انحسار الحضارة الغربية المعاصرة.. ثم توقف تفصيليًّا عند ثلاثة من كبار مفكري الغرب رأى أنهم “رسموا، منفصلين ومجتمعين، صورة واضحة عن تفكك الغرب، كما يحدث حاليًا ويواصل مستقبلاً”، بحيث لم يبلغ أحد ممن اشتركوا معهم في هذا التحذير مبلغهم من المجال الثقافي والخبرة العميقة لديهم في هذا الصدد..
وهؤلاء الثلاثة هم الفيلسوف الاجتماعي الألماني والمؤرخ، أوزوالد شبنجلر، في كتابه الشهير (انحسار الغرب).. والمؤرخ الإنجليزي، آرنولد توينبي بكتابه الضخم المميز (دراسة التاريخ).. إضافة إلى عالم الاجتماع بجامعة هارفارد، بتريم سوركين، بكتابه (المحركات الاجتماعية والثقافية).
أما المفكرون الأربعة والعشرون فنمهم الشاعر الفرنسي شارل بودلير (1821- 1867)؛ حيث كان من أوائل من حذروا من التدهور، ورأى أيضًا أن التكنولوجيا التي يعيش بها الغرب تدمر الثقافة.. واتفق معه الروائي الروسي ليو تولستوي (1828- 1910)؛ في حين رأى مواطنه ومعاصره، فيدور دوستويفسكي (1821- 1881) أن الحضارة الغربية تتجه نحو انهيار مأساوي.
ولا تتوقف القائمة عند جاكوب بوركهارت، أحد أبرز مؤرخي القرن التاسع عشر، والذي شبَّه أوروبا في عصره بروما القديمة حال انحلالها.. ثم ألفريد نوبل، صاحب الجائزة الدولية المعروفة، والطبيب ألبرت شفايتزر، والمؤرخين الأمريكيين بروكس آدامز وهنري آدامز، بجانب الأدباء المشاهير جاك لندن، وهـ.ج. ويلز، وجورج أورويل، وألدوس هكسلي، الذين لديهم الكثير مما يقولونه حول التدهور الثقافي للحضارة الغربية.
ويوضح براندر، صاحب (رؤية الفوضى)، أنه ينطلق في كتابه من “فكرة أن الحضارة الغربية قد حانت نهايتها، على الأقل في شكلها المادي والحسي والعلمي والتقني وغير الديني والتوسعي المهيمن على العالم؛ وهو الشكل الذي اتخذته خلال القرون الخمسة الماضية. وطبقًا لمؤيدي هذه الرؤية، فإن النهاية لن تكون مستقبلاً، بل على وشك أن تدهمنا في الوقت الحاضر”.
ولا ينسى براندر أن ينبه على أنه لا يقصد من عمله هذا، الذي يرصد التحذيرات ويحللها: “بثَّ التشاؤم، أو إحداث الذعر؛ فمن شأن هذه التحذيرات طبعًا أن تكون مزعجة، بخاصة لمن يشعرون بالرضا عن الأشياء كما هي، ويعيشون في خضوع وجداني على أساليب الثقافة وريادتها”.
ثم يتابع: “كُتب هذا الكتاب من أجل أغراض أكثر بنائية… فأي واحد يشعر بالدهشة حول التغير الاجتماعي السريع الذي يكتسح الثقافة، مثل موجة عارمة؛ سوف يجد في هذه الصفحات توضيحًا وافرًا عن أسباب حدوث هذه التغيرات، وإلى أين تقودنا… والمحافظون الذين يتذكرون باشتياق عصورًا أكثر استقرارًا وهدوءًا أو يمكن التكهن بما تحمله؛ يمكن أن يجدوا حافزًا للتنبؤ بالعالم الذي سيظهر، حينما تصبح مشاكل العصر الحالي شيئًا من الماضي”.
ولعلنا نضيف في هذا السياق عدة ملاحظات مهمة:
الملاحظة الأولى: بما أن الحضارة المعاصرة قد أسلمت قيادها للحضارة الغربية، بعد أن انزوت شعلة الحضارة عن عالم الإسلام؛ الذي دخل أهله في سبات عميق من قرون، وبالكاد يأخذوا في الاستيقاظ والتنبه! فإن الأزمة المعاصرة هي أزمة عالمية، ولا تنحصر فقط في الحضارة الغربية، وإن كانت هذه الأخيرة هي المعنية بالأساس بحديث الأفول والانحسار؛ لأن غيرهم أفل وانحسر من قبلهم بقرون!
الملاحظة الثانية: أن الحديث عن الأزمة المعاصرة ينبغي أن يكون مصحوبًا بالقلق والإشفاق من الحال البئيس الذي انتهت إليه، أكثر من التشفِّي والشماتة؛ على الأقل لأنه لا أحد ينجو من شرر هذه الأزمة!
الملاحظة الثالثة: أن الأهم من الحديث عن انهيار حضارة ما، فتلك سنة الله في الحضارات: (سنة التداول).. وتلك عبرة التاريخ: حيث نشاهد الحضارة مثل الكائنات الحية؛ تولد وتنمو ثم تشبّ وتأخذ في الفتوة، ثم تصيبها الشيخوخة وتأخذ منها.. نقول: الأهم من الحديث عن هذا الانهيار هو الانشغال بالبديل، والاستعداد لـ”ما بعد الانهيار”.
فهذا الانشغال بما بعد الانهيار يدل على أننا ندرك مسئوليتنا، وما ينبغي علينا أن نقدمه للإنسان المعاصر؛ الذي لا يجوز لنا أن نتركه فريسة للانهزام النفسي أو العدمية، لأننا أمة الرسالة الخاتمة الشاهدة.
إلا أننا، للأسف، نلاحظ شيوع روح التشفي في بعض الكتابات الإسلامية التي ترصد حديث الانهيار الغربي.. نعم، قد يكون لها عذر؛ بالنظر للعلاقة الشائكة مع الغرب، ولما اقترفه الغرب من آثام تجاه العالم الإسلامي.. لكن علينا ألا نظل أسرى لروح التشفي هذه، وأن ننشغل بدلاً من ذلك بأسئلة: ماذا بعد؟ ماذا علينا أن نفعل؟ ماذا لدينا لنقدمه للإنسانية التائهة المعذَّبة؟
إن المسلمين، ولأنهم أمة الرسالة الخاتمة الشاهدة، عليهم أن يفكروا كثيرًا في المرحلة التالية من عمر الحضارة البشرية، وأن يستشعروا واجبهم تجاه إنقاذها وإعادة الروح لها من جديد.. وهم بفضل الله قادرون على ذلك؛ لأنهم أصحاب الوحي الخاتم المحفوظ من التبديل والتحريف؛ ومادام هذا الوحي بأيديهم فإن شعاع النور لن يخبو، وجذوة التحضر لن تنطفئ.
كما أن هذا الانشغال بما بعد الانهيار، يدل على “عقلية البناء”، التي ينبغي أن نتصف بها.. وعلى قيمة “الأخذ بزمام المبادرة”، التي تميِّز إنسانًا ناجحًا من غيره.. بجانب أنها تدل على أننا ندرك عمليًّا أن الإسلام رسالة رحمة وهداية، وللناس كافة؛ وأننا جديرون بأن نكون على هذا المستوى الذي تتطلبه رسالة الرحمة والهداية والعموم..
فالأهم من الحديث عن انهيار الغرب، هو الانشغال بما سيكون بعده، وبما يجب علينا فعله..
المصدر : إسلام أون لاين
الكلمات الدالة : اآرنولد توينبي أوزوالد شبنجلر الحضارة الغربية ب.ج. براندر بتريم سوركين الحضارة الغربية الإسلام دعاة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة