ثوراتنا المسروقة.. لماذا تُسرق؟ وكيف نتستردها؟
قبل شهور، أي قبل أن تتطور الأوضاع في الجزائر والسودان جاءتني دعوة كريمة للمشاركة في المؤتمر الدولي الخامس للشرق الأوسط، الذي تقيمه جامعة اسطنبول جيليشيم، وقد انعقد المؤتمر قبل يومين، وتقدمت بورقة عن معضلة تاريخية تابعتُ تشكلها، وهي هوية ثورة 1919.
كثير من الشواهد والمعلومات المختبئة في تضاعيف الكتب والمذكرات تنبئ أنها كانت ثورة إسلامية، والثورة الإسلامية هنا بمعنى أن جماهير المشاركين فيها مسلمون، يطلبون الاستقلال من الاحتلال الأجنبي الإنجليزي (بمعنى العودة إلى رابطة الخلافة العثمانية، حتى كانت القرى التي تتحرر ترفع العلم العثماني فوقها)، يتحركون بزعامة مشايخ الأزهر والعلماء وخطباء المساجد، ولا يستهدفون بحال تحول مصر إلى الليبرالية العلمانية التي مَثَّلَها سعد زغلول قبل أو بعد الثورة.
ومع هذا فالرواية التاريخية المستقرة أن ثورة 1919 كانت ثورة وطنية ليبرالية، وطنية بمعنى أنها ترفض الرابطة العثمانية والاحتلال الإنجليزي معا، وليبرالية بالمعنى العلماني الذي يجعل الهوية المصرية الوطنية المنافية للرابطة الإسلامية وللتصور الإسلامي أساسا لها.
ولقد راجت هذه الرواية واستقرت وشارك في ترسيخها مؤرخون وباحثون موصوفون بالانتماء الإسلامي.
حاولت هذه الورقة بحث هذه المعضلة: ما هي العوامل أسست وشكلت هذه الرواية التاريخية؟
لا يهمني الآن من حديث التاريخ هذا إلا أن نكبتنا في تمثيل ثوراتنا لا تزال مستمرة حتى الآن، في ظل هذا الضعف العام الذي تعانيه الشعوب وحركاتها الثورية الصادقة.
لقد رأيت بنفسي في الثورة المصرية كيف أن الذين تسيل دماؤهم في الشوارع لا يستطيعون توصيل صوتهم ورغباتهم، بل على العكس، يحتكر تمثيل أصواتهم حفنة لم تدفع الثمن في الشوارع ولكنها تمتلك مقعدا في الفضائيات.. هذا فضلا عن أن الحالة الثورية نفسها ركبها العسكر الذين كانوا يملكون الدبابة التي تجبر مبارك على التنحي.
ولأجل هذا تقع ثوراتنا كلها -حتى اللحظة- في معضلة الاستنجاد بالجيوش للتخلص من الطغاة، فإن استجابت الجيوش (أو هكذا تبدو) كان التهديد القائم هو تكرر المسار المصري، وإن لم تستجب كان التهديد القائم هو تكرر المسار السوري والليبي.. والواقع أن الجيوش العربية ليست إلا فروعا للقوى الأجنبية المحتلة، إن لم يكن بمنطق السياسة وظروف التشكل التاريخي فبميزان علاقات القوة وبطبيعة التدريب والتسليح والثقافة التي تلقاها قادة الجيوش.
طاقة الأمة الثورية الرافضة تشبه سيلا قويا لكن يُواجه باستحكامات أقوى تحدد له المسارات لتمتص قوته بل وتستفيد منها في معكوس اتجاهها. أو هي كطاقة رجل يبذل كل جهده في رفع صخرة ثقيلة جاثمة عليه لكنه لا يملك إلا أظافره ينحت بها فيها، طاقته وصبره وتفانيه مثير للإعجاب لكن النتيجة النهائية لا تبدو مؤثرة في تغيير وضعه العام.
المهم هنا أن أحد أهم هذه الأدوات في تصريف طاقة الأمة هو هذه النخبة المحلية التي تشربت أفكار المحتل ومناهجه وأدواته، وهو ما أرى أن بدايته في مصر كانت في ثورة 1919 التي سار فيها الشعب في اتجاه بينما سارت النخبة في اتجاه آخر، ثم انتصر اتجاه النخبة بفعل الخداع وبفعل موازين القوى وبفعل احتكار الإعلام الذي يملك تفسير وتوصيف الحدث رغما عن أنف الجماهير.
تعتبر ثورة عرابي آخر ثورة كانت نخبتها تعبيرا حقيقيا عن الجماهير، ولولا هذا التأثر بالحداثة الغربية ودولتها ومؤسساتها وقوانينها وتقاليدها لكنا نكتب الآن تاريخا آخر (سأضع في التعليقات روابط فيها مزيد تفصيل)
من بعدها، كانت ثوراتنا يسرقها العملاء وصنائع المحتلين، لكن المحتل كان يصنع المشهد بحيث أن ممثل الثورة وممثل الاحتلال كلاهما في النهاية تابعين له، ففي ثورة 1919 جرى استبعاد تام للحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل وكان يقوده محمد فريد، وفضل الحزب الوطني (كما في مذكرات محمد فريد) أن ينسحب من المشهد لئلا يستعمل الإنجليز خلافهم مع سعد زغلول للتحجج بانشقاق الموقف في مصر وعدم تمثيل الوفد للمسألة المصرية.
بعيدا عن التفاصيل الكثيرة التي ليس هذا موطنها، كان الصراع في مشهد تمثيل ثورة 1919 بين الحكومة التابعة للإنجليز تماما (حسين رشدي وعدلي يكن.. إلخ) وبين الوفد الذي يتزعمه سعد زغلول، وسعد زغلول رجل كان قبل الثورة خالص الولاء للإنجليز ويتولى وزارات حكوماتهم وتفضحه مذكراته نفسها فضلا عن مذكرات معاصريه.. وتنزل المظاهرات التي تعبر عن الطرفين لتهتف الواحدة منها: الاحتلال مع فلان أفضل من الاستقلال مع علان!!!
بينما يتعاون الطرفان معا على تهدئة حركة الثورة في الشارع، وربما إخمادها، وتعقب المقاومة التي تغتال الإنجليز وعملاءهم. وتستعمل بريطانيا هذا الوضع كجزرة وعصا، فبقاء حكومة سعد مرهون بقدرتها على تهدئة الأوضاع، وعملية اغتيال للسير لي ستاك تطيح بحكومته وتعيده إلى البيت.. وتتمخض الثورة الكبيرة الهادرة عن حبر على ورق اسمه دستور، واستقلال شكلي لا معنى له، ومفاوضات تبدأ ولا تنتهي (أخلفت بريطانيا 65 وعدا بالجلاء عن مصر كما عدَّها فاروق للسفير الأمريكي كافري).
هذا السفير الأمريكي هو الذي تنقل وثائقه أنباء الثورة التي كانت مصر حبلى بها، والتي سُرِقت على يد العسكر، وبتدبير المخابرات الأمريكية، بانقلاب يوليو العسكري الذي سمَّته المخابرات الأمريكية “المكنسة” لأن دوره كان إخراج مصر والمنطقة من النفوذ الإنجليزي والفرنسي وإدخالها في النفوذ الأمريكي، وهي الحقيقة التي يقولها هيكل بنفسه، إلا أنه يقولها لقراء كتابه الإنجليز لا في النسخة العربية (وللتفاصيل يراجع: ثورة يوليو الأمريكية لمحمد جلال كشك.. والمصادر كثيرة لكن هذا أشملها فيما رأيت)
هنا أيضا كانت الملكية وفاروق ونخبة ذلك العصر في طرف، وكان العسكر وعبد الناصر في طرف آخر.. بينما القوى الحقيقية التي يفرزها الشعب غائبة عن أن تمثل ثورة الشعب ومصالحه، وحتى هذه اللحظة ورغم ما تكشف من الوثائق والمذكرات لا تزال الرواية التاريخية الراسخة في مصر أن انقلاب يوليو هو ثورة وطنية تحررية وأنها تمثيل للشعب المطحون!
حتى ثورة يناير.. فمع أن كل إفرازات هذه الثورة إسلامية، وذلك عبر كل ما تمخضت عنه من استفتاءات وانتخابات رئاسية وبرلمانية، إلا أن الإصرار قائم وبقوة على تسجيلها كثورة بلا هوية ولا توجه.. وهو إصرار ينهزم أمامه أكثر المنتسبين إلى التيار الإسلامي للأسف.. نعم، إن الثورة لم يشعلها إسلاميون تنظيميون ولا كان كل المشاركين فيها ينحازون إلى الهوية الإسلامية، إلا أن كل اختبار يعبر عن هوية هذه الثورة وهذا الشعب وعن انحيازاته كان حصادها محسوما للإسلاميين.. وهو ما اضطر النظام المصري ومن ورائه أسياده الأمريكان إلى الانقلاب العسكري المباشر على نتائج هذه الثورة.
فيما عدا الثورة الإيرانية التي تعتبر الثورة الشعبية الوحيدة التي نجحت بقوة في عالم الحداثة والهيمنة الغربية، فبقية الثورات الشعبية في بلادنا إما أخمدت بقوة النار والحديد واعتمادا على الفارق الهائل في القوة، أو أخمدت بنوع من الخديعة عبر هذا التمثيل الزائف لها عبر النخب المتغربة، وقد استعانت هذه الخديعة بقدر غير قليل من القوة.
هكذا إذن، الشعوب لا تملك أن تمثل نفسها في الثورات، ونادرا ما ينجح ممثلوها الحقيقيون في فرض أنفسهم لتفاوت ميزان القوى بينهم وبين أعدائهم، وهؤلاء ما إن يستطيعوا تمثيل الشعوب حتى يدخلوا في دائرة المواجهة أو دائرة المكر (في دراسة لراند عنوانها: “كيف تنتهي الجماعات الإرهابية؟” توصلوا إلى أن 43% من هذه الحركات تنتهي بدخولها في العملية السياسية، و40% تنتهي بالاختراقات الأمنية التي تقدم المعلومات فتسهل اغتيال الشخصيات المؤثرة).
لقد تطور علم كبير سماه الأمريكان “مكافحة التمرد” تخصص في أفضل الأساليب للقضاء على الحالات التي تخرج عن نظامهم ونفوذهم، ومصطلح “التمرد” في قاموسهم يعني الحركات ذات الجذور الشعبية والمطالب المشروعة بخلاف مصطلح “الإرهاب” الذي هو عنف عبثي وانحراف منبوذ شعبيا. ويعتمد علم مكافحة التمرد على تقوية الحكومات المحلية “المعتدلة” وتمكينها من بسط سيطرتها ودعم أجهزتها ومؤسساتها لأن الحكومات المحلية أكفأ في التعامل مع المجتمعات.
السؤال الدائم: ما الحل؟
الإجابة الدائمة:
1- يجب أن نعرف أولا أن نضال شعوبنا في هذه اللحظة من تاريخ الأمة هو نضال مركب، يجتمع فيه معنى الثورة السياسية (ضد المستبد) والاجتماعية (ضد طبقة الاستبداد والنخبة المتغربة) وحرب التحرير (ضد العدو الأجنبي المهيمن الذي صنع ويصنع ويرعى ويدعم كل هذا).
ويجب أن يكون معروفا حجم هذا التحدي الضخم المرير ذي التكاليف الهائلة.
2- كل إضعاف للدولة المعاصرة هو خصم من قوة الأجنبي وإضافة لقوة الشعوب..
– فكل انتشار للكتاتيب وللتعليم الأهلي وهجران للمدارس النظامية إضافة للمجتمع وخصم من الدولة
– وكل تعامل خارج بنوك الدولة ومؤسساتها كذلك.. بل كل تعامل مالي خارج عملة الدولة (حتى لو بالمقايضة القديمة أو بأي وسيلة أخرى كالعملات الإلكترونية مثلا عند من يري ذلك -أنا لم أبحث موضوع العملات الإلكتورنية جيدا لكي أقرر-)
– وكل لجوء للقضاء العرفي والمجالس القبلية والعشائرية كذلك
– والأهم من كل ما سبق أن كل انتشار للسلاح في يد الشعب بما تتعطل أو تتعرقل معه سطوة النظام إضافة للمجتمع وخصم من قوة النظام
باختصار: كل ما يعطل تحكم الدولة في الشعب وسيطرتها على الموارد ومفاصيل سير الحياة هو إضافة للأمة وخصم من الدولة.
3- ثم لا يثمر هذا كله إلا على يد قيادة صادقة خارجة من رحم الشعب، تستطيع إدارة المعركة وإنشاء التحالفات وترتيبت الأولويات وزعامة الجماهير، ولا يمكن أن يحوز قائد هذه الأمور إلا إن كان متمتعا بالفطرة وبالمستشارين وبالدراسة المعرفة بعلوم الاجتماع والسياسة والقيادة.. ولا بد أن يتوفر لهذه القيادة الحماية من الاغتيال والاستهداف وجيش من الصادقين يوظفون معارفهم وإمكانياتهم ومهاراتهم..
4- وإلى أن يتوفر هذا فلكل واحد منا واجب عليه أن يقوم به، وهو أعرف بنفسه وموهبته ومكان أدائه الأمثل، وهذا هو الموطن الذي سيحاسب الله عليه، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فالمهمة الواجبة هي استفراغ الوسع في معركة الأمة.
المصدر : جريدة الأمة
الكلمات الدالة : الثورات الشعوب الجزائر مصر السودان السياسة الجيوش العربية النظام العسكري حكم العسكر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن