التكنولوجيا في مواجهة الحصار الإسرائيلي
لا أحدَ يكره أن تُصبح غزة في قائمة مدنِ العالمِ المتطورة والمتحضرة تكنولوجيًا؛ فالتقدم التكنولوجي مؤشر على الرقي والحضارة، بيدّ أن أهل غزة يرفضون أيَ تقدمٍ تكنولوجيٍ مشروطٍ بتقديمِ تنازلاتٍ مجحفة، مثلما يُنادي بذلك دعاة أوسلو والمنظرين لما تُسمى “بعملية السلام”..! فمؤتمر المنامة الذي عُقد مؤخرًا في البحرين والذي يسعى إلى مدِ غزة بالتكنولوجيا يجبُ مجابهته بالوعيِ الكافي عبر المحاضرات التكنولوجيةِ التي تؤسسُ لجيلٍ ذكيٍ من المبرمجين العصريين والمحترفين في عالمِ الهكر وثورة المعلوماتِ التكنولوجية، بحيثُ يغزو أصغر طفلٍ بعقله التكنولوجيِ آلة الاحتلال الإسرائيلي المتغطرسة، من بابِ التأكيد على أن الأميّ اليوم هو ليس من لا يعرف الكتابة ولا القراءة بل من لا يُجيدُ التعامل مع الشاشة العنكبوتية التي باتتْ تُقربُ البعيد، وتنسفُ الحدود..!
فطبيعة الصراع الفلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي يتطلبُ تكاثر الأجيال المناوئة لإضاعة الوقت عبر شاشات الهواتف النقالة، ذلك لأن المعركة الإلكترونية أكبر من مجرد هاشتاقات وفيسبوكات وماسنجرات وانستجرامات وواتسابات…الخ، فرغم أهمية ما سبق في التوعية والتثقيف إلا أن ذلك لا يجب أن يكون على حساب المصلحة العامة أو حتى الشخصية…! فليعمل الفلسطينيون على آلا تتفوق التكنولوجيا بكل ما لها من فوائد على الكتاب الورقي، لأن التمرد على الأصلِ والقفزَ عن أمهات الكتب لصالحِ الإنترنتْ من أهداف العولمةِ التي حولتْ العالم إلى قريةٍ صغيرةٍ متشعبة؛ كما أن العلمَ بواقعِ أعدائنا وتفاصيلِ حياتهم يجبُ أن يسبقَ أيَ خطوةٍ تهدفُ إلى تسليحِ غزة تكنولوجيا؛ فالسلاحُ التكنولوجي إن لم يكن متوائمًا مع السلاح المعرفي والثقافي يفقدُ قيمته، ويُصبح أداة سلبية تُوظفُ ضدَ أهدافِ المقاومةِ في إعدادِ مجتمعٍ رائدٍ حتى في استخداماته التكنولوجية بما فيها وسائل التواصل، بحيثُ يقفزُ مستخدموها من مرحلةِ توثيقِ حياتهم الاجتماعية والشخصية إلى تسليطِ الضوء على قضاياهم الوطنية والمصيرية وعلى رأسها حق تحرير الأسرى والأقصى من دنسِ الاحتلال الإسرائيلي..
من المخجل بل من المعيب أن يتسابق كثيرٌ من المثقفين وأهل العلم على اقتناء أفخمِ وأحدث (تقليعات) الموضة؛ فتراهم يُقبلون بنهم على تجديدِ هواتفهم النقالة تجاوبًا مع آخرِ هاتفٍ حديثٍ وصلَ إلى السوق المحلي أو حتى الخارجي،في المقابلِ لا يكلفون أنفسهم بتحديثِ عقولهم عبرَ إمدادها بمعلوماتٍ متجددةٍ ومستديمةٍ حول الملفاتِ المعقدة التي تعيشها القضية الفلسطينية، في ظلِ ترهلِ الواقع الثقافي، واعتماد السواد الأعظم من الطلبة وحتى المعلمين أنفسهم على الثورة العنكبوتية في استقاء أفكارهم بل وكتاباتهم، لدرجة أن الأبحاث العلمية للطلبة أصبحتْ في أغلبها أسيرة النسخ واللصق، وهو ما يُحتمُ التوازن في استخدام الأدوات التكنولوجية بما يكفلُ إعادة الاعتبار لهيبة الكتاب، باعتباره المرجع الأول والحاضن الأسمى لكلِ العمليات الفكريةِ والثقافية والعلمية، وبإنصافه كونه الأب الروحي لكلِ العلماء والرائدين، فما ضلّ وما قلّ وما ندم وما تراجع من اتخذّ الكتاب صديقًا وحميمًا له…!
تدوينتي هذه ليستْ لمحاربةِ اقتناء الأجهزة التكنولوجية، أو للهجوم على مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، بل هي من أجلِ الحثِ على معرفة كلِ جديدٍ في عالم التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي، معرفةٌ لا تُلغي الكتاب بل تُعززُ قيمته، وتُعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، بالعودة إلى الفطرة السوية وإلى تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف الذي أمرنا بالقراءة فقال جل في محكم التنزيل”اقرأ”…! وبالطبعِ فإن محاباةِ الكتابِ والقراءة الورقية لا تعني عدم مدح مزايا التكنولوجيا في توفيرِ بعض الكتبِ المستعصية توفرها ورقيًا، جراء الحصار الإسرائيلي على القطاع، إذ باتَ من السهلِ اقتناؤها من خلال تحميلها عبر الشاشة العنكبوتية وتصفحها، لتبقى المطالبة بأهميةِ استثمار كل مواقع التواصلِ التكنولوجي والاجتماعي في نشرِ الثقافة والمعرفة والعلومِ على اختلافها، من بابِ العلمِ بالشيء، وتحفيزِ الناسِ على القراءة..
كما أنّ ذلك يتطلبُ تشجيعَ ثقافة التهادي بالكتاب، عبر إطلاقِ حملات التزاورِ في كل الأحياء والمدن والقرى الفلسطينية، ودراسة احتياجاتِ العامةِ لنوعية الكتبِ بما يضمنُ تقوية النسيج الاجتماعي عبر الزياراتِ على المستوى الأسري والمجتمعي، وتقوية النسيج الفكري والثقافي عبر إهداء الكتب وتبادلها بين المعارف والأصدقاء بل وتوسيع الدائرة لإهداء حتى أولئك الذين لا نعرفهم شخصيًا؛ فلرب كتاب أهداه أحدهم لعابرِ سبيل، بثّ فيه روحًا إيجابية، وقوّم فيه سلوكًا شقيّ وهو يسعى لتقويمه…! نعم للتكنولوجيا، وفي المقابل ألف نعم للكتاب والقراءة الورقية، بل ألف نعم ونعم للتكنولوجيا إن كنا سنوظفها في إعدادِ جيلٍ وجيشٍ إلكترونيٍ يوازي جيش أعداء قضيتنا الإسلامية والوطنية، بحيثُ يكون الهكر مقابل الهكر، والدعاية النفسية مقابل الدعاية النفسية..
معًا لنشرِ ثقافة التكنولوجيا بثوبٍ فلسطينيٍ مقاوم بحيثُ تكون صديقة المقاومة وحافظة لحقها في الردِ على الاحتلال الإسرائيلي وأعوانه ممن يُريدون سلخ الفلسطيني عن أهدافه ومبادئه، فيما يُعرف بالفلسطيني الجديد ذلك الفلسطيني الذي “يأكل مما لا يزرع، ويلبس مما لا ينتج، ويضيعُ وقته في أمورٍ ثانوية”.. ومن هنا وجبّ التنويه إلى أهميةِ دعم المقاومةِ بكل الطرق ومنها التبرع والدعم المالي عبر عملة البتكوين، من شتى بقاع المعمورة؛ فلتُكثف حملات تحسين مستوى أداء الفلسطينيين تكنولوجيا بحيثُ يكونون جميعًا من حماة المقاومة وحاضنيها؛ ما يعني اتخاذ أعلى درجاتِ اليقظة في نشرِ المعلومات لاسيما من قبلِ الفاعلين والمؤثرين والناشطين الشباب، فالتكنولوجيا من الوسائلِ التي لو أتقنّ الفلسطينيون استخدامها لهزموا المحتلَ الإسرائيلي وجروه إلى مربعِ الهزيمة والعار..
فتوظيفُ التكنولوجيا حتى في قياس الرأي العام، ومعرفة ما يفكرُ فيه الجمهور الإسرائيلي أمرٌ مهم، وهذا يستدعي من كل المفكرين والعاملين في المجالاتِ الحساسة دراسة اللغات المختلفة وإتقانها لاسيما العبرية، بهدف التعرفِ على طبيعة الاحتلال الإسرائيلي؛ وضربه عسكريًا وهزيمته نفسيًا، فمعركة الكلمات قد تُحقق تفوقًا على الضربات، فربِ كلمةٍ كانتْ في قسوتها أشد إيلامًا من اللكمات، مع التأكيد على أن الفعلَ يسبقُ القول دومًا مصداقًا لقوله تعالى: “لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا”..
فلا لتغذية قطاع التكنولوجيا والمعلومات على حسابِ البندقية وحق الفلسطينين في استعادةِ حقوقهم التاريخية وعلى رأسها تحرير فلسطين من رأس الناقورة إلى رفح، وحق عودة اللاجئين إلى ديارهم وتعويضهم وأيضًا تبيض السجون الإسرائيلية من الأسرى وإلى آخرها من حقوقٍ لا ولن يتخلى عنها الفلسطينيون؛ فالإنفتاح التكنولوجي يجبُ أن يُرافقه انفتاحٌ عسكريٌ، يضمنُ حق غزة في التسلحِ بكلِ ما تحمله الكلمة من معانٍ تسلح أخلاقي وعسكري وثقافي وتكنولوجي، تسلحٌ على أعلى المستويات ويراعي آخر التطوراتِ على طريق الدول العظمى في الدفاع عن حقها في اقتناء الأسلحة وتطويرها..!
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة