المسترزقون بالدِّين
كتب بواسطة د. سيرين الصعيدي
التاريخ:
فى : بوح الخاطر
1540 مشاهدة
قالت العرب قديماً: "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها"، وهو مثل يضرب في ترفع الرجل بنفسه عن خسيس مكاسب الأموال، فصار هذا المثل دارجاً على لسان كل من يسعى لصيانة نفسه وفكره ومبادئه بل وعرضه أيضاً، فلا يفرط بأيّ مما سبق في سبيل عرض بخس من عروض الدنيا التي لا محال تؤول إلى زوال وفناء، فلا يبقى من لذاتها ولا سرورها إلا ما كان خالصاً لوجه الله.
والمتتبع لآي القرآن الكريم يجد فيها ما يحذر من أن يسلك المرء سبيلاً من هذه فيأكل ويشرب بآيات الله، بل ويستثمرها لتحقيق مآربه ومصالحه الشخصية مقتفياً بذلك أثر بني إسرائيل إذ يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77].
غير أن من أسباب ضياعنا وزلل خطواتنا وانحرافها عن الجادة أننا نقرأ كتاب الله وكأننا نقرأ كتاباً يحوي أخبار السابقين، فنمتّع أسماعَنا وعقولنا بقصصهم على سبيل الاستمتاع، لا على سبيل أخذه بقوة والانتفاع به، فثمة انفصال وهوة بين ما نقرأ من آياته العطرة وبين واقعنا وسلوكنا، فلا نكاد نطبق أوامره ونجتنب نواهيه، وكأنه أنزل لتلك الأقوام السابقة التي يقصّ علينا قَصَصَهم؛ لنعتبر ونتدبر حالهم الذي آلوا إليه عندما أعرضوا وحرّفوا وبدّلوا، عندئذ سنصير إلى ما صاروا إليه ونتجرع مما تجرعوا منه إن اقتفينا أثرهم وحذونا حذوهم.
من أسباب ضياعنا وزلل خطواتنا وانحرافها عن الجادة أننا نقرأ كتاب الله وكأننا نقرأ كتاباً يحوي أخبار السابقين، فنمتّع أسماعَنا وعقولنا بقصصهم على سبيل الاستمتاع، لا على سبيل أخذه بقوة والانتفاع به
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77]، وقد قيل إن هذه الآيات نزلت في جماعة من اليهود جاءوا لكعب بن الأشرف في سنة قحط وجدب يطلبون الطعام والكسوة فأنكروا معرفة ذكر النبي الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- بأوصافه في كتبهم مقابل الطعام والكسوة، آيات عديدة من كتاب الله جاءت في ذم وبيان جزاء أولئك الذين ابتاعوا دنياهم بأخراهم واشتروا بآيات الله ثمناً بخساً ومتاعاً زائلاً من متاع الدنيا، وأياً كان سبب نزول الآيات سواء توجه الخطاب لبني إسرائيل -أو غيرهم- فإنها تتوجه أيضاً لكل من شابه حاله حالهم وفعل أفعالهم، لا سيما وهذا القرآن الكريم معجزة الإسلام الخالدة التي لا يحدها زمان ولا مكان، ولم تنحصر في قوم دون قوم إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويذم الله تعالى المشركين في قوله: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ ۚ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 9]، أي "اعتاضوا عن اتباع آيات الله بما التهوا به من أمور الدنيا الخسيسة" [عمدة التفسير].
فكل من يشتري بآيات الله ويحاول طمس حكم الله في سبيل عرض ومتاع زائل يشمله الخطاب الرباني، تماماً كما يحدث في زماننا؛ فالتاريخ يعيد نفسه، وستجد على مدار الزمان ثلة تصول وتجول على الساحة يتملقون أصحاب القوة أو الغنى وأصحاب النفوذ، يزينون لهم أعمالهم ويناصرونهم عليها بل ويخلعون عليها صفة شرعية، وقد ساقوا الأدلة بعد ليّ أعناق النصوص الشرعية، وقدموا دنياهم على أخراهم، واشتروا بآيات الله ثمناً بخساً كاستجلاب مال، أو حفاظ على منصب، وقد نسوا أن كل ملك دون ملك الله زائل، فلا مال ولا سلطان ولا جاه يدوم على حال، وأن الأيام دول، ولو أنها دامت لغيرهم لما وصلت إليهم.
وآيات الله وسننه في الأكوان ظاهرة وآثار السابقين شاهدة على مصائرهم، فأين قارون بماله، وفرعون بجبروته، وهامان بمنصبه، والنمرود بسلطانه!
إن أولئك الذين يسترزقون بسمتهم الديني ومظهرهم الملتزم لو تدبروا آيات الله وتفكروا في عواقب الأمر، لعلموا أنهم بصنيعهم عجزوا عن اللحاق بحرائر النساء اللاتي يجعن ولا يأكلن بأثدائهنّ، فأين نخوتهم ومروءتهم، وقد أكلوا هم بآيات الله وابتاعوا بمعتقداتهم وأفكارهم ومبادئهم حطاماً زائلاً من الدنيا.
وإن هؤلاء أشد أذية وأكثر خطراً على المجتمع؛ لأنهم يزينون الباطل ويناصرون الظالم، بل ويخلعون على فعله صفة شرعية يتحكمون من خلالها برقاب وأرزاق العباد، فالحذر منهم واجب على العباد.
وعلى أهل العلم ورجال الدين الأتقياء أن يدفعوا الحجة بالحجة ويبينوا للناس ما التبس عليهم من أمور دينهم ودنياهم، وذلك عن طريق فتح قنوات التواصل والمنصات الإعلامية، وتكثيف البرامج التي تهدف إلى توعية العامة، وإعداد الدعاة والتربويين من كلا الجنسين؛ ليبلّغوا دين الله في أشد الصور وضوحاً، فلا يخشون لومة لائمٍ، فيبذلون من أوقاتهم وأعمارهم -لا من نافلتها- لإظهار الحق والسير في سبيله مهما تعثرت بهم الخطوات أو حاقت بهم الدوائر والمكائد.
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن