عندما تسأل: لماذا يارب؟
كتب بواسطة هدى عبد الرحمن النمر
التاريخ:
فى : في رحاب الشريعة
2067 مشاهدة
إذا تأملتَ في حال الملكية الأرضية، فصادفتَ –مثلاً- صاحب أرض من 40 فدّاناً، باع منهم 39.5 فدان، ففكرتَ أن تسأله متعجّباً: "لماذا لم تَبِع النصف فدّان الباقي!"، وأجابك: "أنا حر التصرف في ملكي"، ستجد أن هذا رداً متداولاً ومقبولاً بين البشر؛ فنحن نتأدب فيما بيننا عند حدود حرمات الملكية البشرية (المجازية في الأصل) وخصوصيتها، وإن لم نفهم "حكمة" المتصرف فيها أو "نقتنع" بمنظوره، لكننا نسلّم بأن ذلك "لا يعنينا"؛ لأنها ليست ملكيتنا.
فإذا كنا نقبل هذه الحرية المستعلية على أي تبرير؛ بسبب حق الملكية المجازي بين البشر، فكيف بالمالك الحق والحقيقي؟ إنّ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] مقتضاها ومعناها أنه ليس من رتبتك ولا شأنك ولا حقك -أيها المخلوق المملوك- أن تسائل ربك –المالك- عن تدبيره في ملكه مساءلة استفهام - ومن باب أولى استنكار – فلله وحده الأمر كله في ملكه كله.
ليس من رتبتك ولا شأنك ولا حقك أيها المخلوق المملوك أن تسائل ربك المالك عن تدبيره في ملكه مساءلة استفهام، ومن باب أولى استنكار!
سبحان الله الملك! كيف بنا مع ربنا وقد خَلقَنا ولم نكن شيئاً؟ ولم يُشهِدنا خلق السماوات والأرض ولا كنا مشرفين على خلق أنفسنا أيضاً؟ كيف بنا مع ربنا وله الأمر كله قطعاً، وليس لنا من الأمر شيء مطلقاً؟ أفإن مَلَّكنـا ربنا الملك نوع ملكية على سبيل الإعارة والمجاز، ولقصد الامتحان والاختبار، تَفرْعَنّا بها واعتقدنا في أنفسنا نوع شراكة حقيقية (وأحيانا نوع استقلال تام) في المُلك الأكبر؟ بل ورحنا "نطالب" بالاطلاع على كشوف الحسابات وتبريرات التوزيعات في مُلْكٍ مجازي في أيدينا، ليس إلا بعضاً من كلِّ المِلك الحقيقي للمَلِكِ الحق!
كم نصيح في أعماقنا:
• لماذا خلقتني كذا وكذا؟
• لماذا أنا من أنا؟
• لماذا ظروفي هكذا؟
• لماذا أهلي على هذه الشاكلة؟
• لماذا تعطي فلانا وتمنعني؟
• لماذا طال ابتلائي؟
• متى يحين زواجي؟
• متى أرزق من هذا أو ذاك؟
• لماذا حُرمت الإنجاب حتى الآن؟
• لماذا ابتليت بالعيال قبل الأوان؟
• لماذا قَدَرت عليّ رزقي؟
سبحان ربنا الملك! من أين يواتينا هذا الاستشعار الراسخ لملكيتنا الحقيقية لأنفسنا وأرزاقنا ووجودنا -بل للكون كاملاً- لدرجة أن نسوّغ لأنفسنا الحق في أن نسائل ربنا -جل وعلا- عن تصريفه في ملكه! من أين تواتينا جرأة أن نجابه ربنا بمثل تلك المساءلة، القائمة على أفهام جائرة مشوّهة أصلاً، والصادرة بنبرات ليس فيها أدنى أدب مخلوق مع خالق أو مملوك مع مالك! ولعل هذه كلها –أو بعضها- مما لا تنطق به ألسنة الأفواه المقرّة باسم الله المالك، لكن ماذا عن ألسنة القلوب التي لم تؤمن بعدُ حقَّ الإيمان بالله المالك؟
وكان خيراً لنا أن نتمهل ونتئد، لنتفكر في البون الشاسع بين: عدّادِ الحساب المنصوب في وجداننا تجاه ربنا -تبارك وتعالى- مشتغلين بالمساءلة والمراجعة في تصاريفه وتقديره في حقنا على ما نريد، وعدّاد الحساب المنصوب تجاه أنفسنا، مشتغلين بالمساءلة والمراجعة في أفعالنا وقلوبنا في حق الله على ما يريد (وليس على ما "نظن" أنه يريد)!
إن لله تعالى الأمر كله والمُلك كله، بما يشمل حرية التصرف مطلقاً في ملكه وأرضه وعبيده ومخلوقاته، بلا أدنى معارضة أو مساءلة أو مطالبة بتبرير! وكثير مما يسمى "الأسئلة الوجودية" من نوع: "لماذا خلقني الله هكذا؟"، "لماذا لم يسألني الله قبل أن يخلقني إن كنت أريد أن أوجد أم لا!"، "لماذا هذا نظام الوجود؟"، "لماذا الامتحان؟"... إلخ. وجوابها الحقيقي الصريح: "لأن الله شاء"، "لأن الله أراد"، "لأن الله هو الله"، "لأن الله الإله"، "لأنه الربّ"، "لأنه مالكك"، "لأنك مخلوق وهذه طبيعة الخلق"، "لأن هذا نظام الخلق كما أراده الخالق"، "لأن الله جعله هكذا"...
ذلك أنه من لوازم الربوبية –لمن لا يعلم- المشيئة المطلقة دون ضرورة تبرير أو لزوم تسويغ أو حتمية وجه حكمة، بل إن المشيئة الإلهية في ذاتها قائمة بذاتها، أي أن بحد ذاتها سبب وجواب.
والجواب الوحيد المتاح لكل مخلوق مملوك عندما يسائل ربّه -تعالى- قد أثبته المالك في القرآن: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، أي إجابات أخرى ستدور حول هذه الحقيقة، في محاولات لتلطيفها وتخفيف وقعها على النفوس ذات النزعة الندّية وحس الملكية الغالب على حس المملوكية، ويظل جوهر الجواب وخلاصته أن الله تعالى لا يُسأل عما يفعل، ولا يُساءَل في فعله أو حكمه أو ذاته، وإنما الحساب والمساءلة من الله للعباد، ومن المالك للملوكين، رضي من رضي وسخط من سخط.
لكن الذي لا يعي من هو الله تعالى، وما معنى الربوبية والألوهية وما مقتضاهما، وما معنى إيمانه بالله إلها خالقاً مالكاً، سيعد مثل تلك الإجابات تهرباً من السؤال ! أمّا حين يَمُنّ الله عليه بتبصرته بالحق، فسيتبين حقيقة أن السؤال لا محل له -من البداية- في سلسال منطق الألوهية والعبودية، "والخالقية والمخلوقية" لمن وعاه، لذلك فالحل أن يضع العبد نفسه في حجمه: عبداً مخلوقاً مملوكاً، يتوافق مع طبيعة "مخلوقيته"، ويتوقف عند حدود مملوكيته، ويتأدب عند حقيقة عبوديته، وأقل ما يكسبه بذلك، أن يريح نفسه هو من فوضى إدخالها فيما لا يعنيها، ولا ينفعها بل يضرها الاشتغال به.
في مقابل ذلك التذاكي والتحذلق مع الرب المالك، تجد أن جواب "لأن المدير يريد ذلك" كافٍ جدا ليُسكِت –ويُخرِس- السائل في المعاملات مع البشر المخلوقين مثله
وفي مقابل ذلك التذاكي والتحذلق مع الرب المالك، تجد أن جواب "لأن المدير يريد ذلك" كافٍ جدا ليُسكِت –ويُخرِس- السائل في المعاملات مع البشر المخلوقين مثله! وإن لم يَرتضِ ملكيتهم في نفسه، سيقهرها ويلزمها الأدب والإذعان، تحقيقاً لمصالح دنيوية أو مجاراة لأعراف مجتمعية، فتأمل المفارقة التعيسة في خشوع الخلق مع الخلق، وتجبّر الخلق مع الخالق! سبحان من وسِع حلمه هذا الجحود والإجحاف، من المؤمن والكافر معا، كلٌّ على شاكِلَة !
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن