أصحاب السبت.. دروس وعبر
القصص القرآني من أحسن القصص كما وصفه ربنا جل شأنه، ففيه من المعاني والعبر ما يعجز أن يوصله لك ألف مقال أو فصيح لسان، يأخذك في جولة نابضة في حياة السابقين فيلخص لك في قصة من قصصهم جل المبادئ والقوانين التي تحكم البشرية منذ شاءت الإرادة الربانية أن يكون هذا المخلوق الضعيف الذي أودع الله به من الأسرار ما يؤهله لأن يكون خليفة في الأرض.
والأسلوب القصصي يغلب على الطابع القرآني لأن المحاكاة والتأثر يكون من خلال ذلك في النفس البشرية أشد أثراً من تلقي الأوامر والنواهي هكذا في صيغها المجردة ، ولحكم أخرى ليس مجال تناولها الآن، غير أن القصص عادة ما تصور لك بأسلوب شيّق جذّاب لطبيعة الصراع بين فسطاطين لا يخلو منهما زمان ولا مكان وهما فسطاطا الحق والباطل وإن تعددت صورهما وأشكالهما، فتارة تجد أطراف الصراع بين بشر وبشر، وتارة تكون ساحة الصراع في النفس البشرية بين الجانب السماوي فيها والجانب الطيني، ومهما تعددت أشكال الصراع وأنواعه يظل أساسه واحد وهو بين الحق المستمد من اتباع أوامر الله وصراطه المستقيم، وبين الباطل المستمد من اتباع الهوى والشيطان.
وقصة أصحاب السبت من القصص التي تصور الصراع القائم على هذه الأرض وتمثل أتباع كل فريق وترشدنا إلى النهاية الحتمية لكل صراع ناشئ وتهدينا للأسس والمعايير التي تجعلك قادراً على تقييم نفسك وسلوكياتك من أي الفريقين أنت، ومن ثم تنفث في روعك وتبذر في نفسك بذور الأمان أن ثمة من يشاركك المصير والمسير، فلست وحدك في صراعك مع الباطل، فأنت وريث الأنبياء ومن سار على نهجهم وتبع آثارهم، كما أن القصص القرآني في سبره للأحداث السابقة بما فيها من صراعات وآلام وانتصارات تصحح في تصورنا كثيراً من المفاهيم التي استقيناها وورثناها من الآباء والأجداد أو من مجتمعاتنا التي نشأت نشأة بتوجيه من العصبية القومية تارة أو الحزبية تارة أخرى أو الوطنية وغير ذلك من اعتبارات ما أنزل الله بها من سلطان.
اقتضت السنة الإلهية أن تجري الابتلاءات على البشر ليتميز بعضهم عن بعض لقوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35] {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] فالابتلاءات أشكالها متنوعة ومتعددة، فالسراء ابتلاء كما الضراء ابتلاء وكل ابتلاء له ما يناسبه من الأحوال والأقوال، وقصة أصحاب السبت تعرض علينا شكلاً من أشكال الابتلاء الذي بُلي به القوم، فقد كان الصيد عندهم محظوراً يوم السبت لقوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163]، وكذلك ابتُلي المؤمنون في تحويل القبلة: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ} [البقرة:143] كما ابتلاهم الله تعالى في الحج بنهيهم ومنعهم من الصيد وهم محرمون فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:94]، وشتان بين موقف المسلمين حيث الالتزام والتنفيذ وبين اليهود الذين خالفوا وتحايلوا.
ففي هذه الابتلاءات يكشف الله عن حقائق القوم، فيتميز منهم المؤمن الحق من المؤمن الذي يدعي الإيمان ادعاء، فعندما يتعلق الأمر بلسان المقال تجد كل البشر يدّعون الإيمان ومحبة الله ورسله الكرام ولسان الحال يصدّق ذلك أو يكذّبه ، فثمة علامة فارقة وبوْناً شاسعاً بين الادعاء والاتباع، فالاتباع ينشأ من تشرّبك للعقيدة أو للمبدأ الذي تؤمن به ثم ترجمة ما تعتقده في قلبك لسلوك تظهر آثاره على ظاهرك وجوارحك.
وأصحاب السبت من القوم الذي ينظرون لأنفسهم على أنهم أفضل شعوب الأرض على الإطلاق، ويمتحنهم الله بإتيان وقدوم الحيتان جليّة ظاهرة في يوم سبتهم وقت امتناعهم عن الصيد، ليتمايز الناس ويختلفوا إزّاء الموقف شيعاً وفرقاً، وكأن هؤلاء القوم إن هم إلا صورة مصغرة عن حقيقة حياتنا ومجتمعاتنا وصراعاتنا، فنقف في هذه القصة على أهم العبر والدروس التي ينبغي على المسلم أن ينظر في عاقبة أمرها وما صارت إليه، ومن ثم يصحح لنا القرآن في هذه القصة ما اعوجّ من مفاهيمنا في بعض الأمور وتصوب ما أصاب معاييرنا وموازيننا من انحراف ومن أهم الدروس المقتطفة من هذه القصة القرآني:
1. وجود طائفة في كل زمان ومكان يوسوس لها الشيطان للتحايل على شرع الله عز وجل فتسوّل لهم نفوسهم بمخالفة قوام العبودية التي فطرهم الله عليها والتي من شأنها أن تسلم الأمر فيهم لله فيتبعوا ما يأمرهم به سيدهم ومولاهم ويجتنبوا ما فيه سخطه وغضبه، فكانت هذه الطائفة من بني إسرائيل التي اتبعت ما يمليه عليها الطمع والجشع فتصطاد بطريقة غير مباشرة لتتحايل على أوامر الله مُؤْثِرة هوى النفس على أمر الله.
2. انقسام الناس إلى فريقين إزاء هذا التحايل والكيفية التي يتعامل بها كل فريق:
الفريق الأول: الذي ينكر المنكر ويأمر بالمعروف مقدماً معذرته إلى الله ولعل المعتدون يرجعون ويتعظون ويؤوبوا إلى الله.
الفريق الثاني: الصامتون الذين لاذوا بالصمت والسكوت عن اعتداء المعتدين ومخالفة المخالفين، بل إن الأمر لم يتوقف على صمتهم وإنما توجهوا باللوم والإنكار على من أنكر ونصح بحجة أنه لا فائدة من إنكار فِعْل قوم لا محال الله معذبهم.
3. مفهوم الأمة في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف:164]، حيث يوضح الله لنا ويضع الأسس الصحية والمعايير التي تؤلف وتجمع بين الناس كأمة واحدة متجاوزة فوارق النسب واللون والبقعة الجغرافية والعصبية القبلية، إذ يقول الشيخ صلاح الخالدي في قصص القرآن: "كيف انقسموا إلى ثلاث أمم؟ وهم من جنس واحد وأصل واحد ويسكنون قرية واحدة، وبينهم روابط عرقية وقومية واجتماعية وحياتية واحدة؟ إن هذا يدلنا على أن الأمة في المفهوم القرآني والتصور الإسلامي، لها معنى غير معناها في المفهوم الجاهلي" (مع قصص السابقين في القرآن).
فالأمة في المفهوم والتصور القرآني هي: "جماعة يجمعهم أمر ما، إمّا دين واحد أو زمان واحد أو مكان واحد ، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيراً أو اختياراً" (المفردات في غريب القرآن)، أما في المفهوم الجاهلي الأرضي هي: "جماعة من الناس، يعيشون في إقليم واحد، ويجمعهم تاريخ واحد ولغة واحدة"(مع قصص السابقين في القرآن، الخالدي).
وخلاصة ما نقف عليه من هذه القصة القرآنية الكريمة، أن الإنسان عليه الأخذ بالأسباب، والنتائج أمرها لله. وأنه لا ينبغي أن يكون الإنسان شيطاناً أخرس، إذ لا بد من موقف يتخذه اتجاه من ينتهك حرمات الله ولو اقتصر الأمر على إنكاره بالقلب ، انطلاقاً من قوله صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (رواه مسلم). فسكوته عن المعتدين وصمته عن الآثمين دون أدنى إنكار إنما يعتبر هذا قبولاً منه لعملهم فلا مجال أن يتعايش الإنسان مع المعصية أو يتصالح مع الإثم ، فكانت عاقبتهم أن سكت الله عنهم وأهمل ذكرهم في الوقت الذي ذكر فيه كلب أصحاب الكهف وخلد ذكره لكونه سار مع الصالحين وليس هناك أشد ألماً من أن يتجاهل أمرك ويطوي ذكرك ملك الملوك.
أما أولئك الذين اعتدوا وتحايلوا وتجرّؤوا على أوامر الله فقد مسخهم الله لقوله تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:166]، حيث إن البشرية كرمها الله بشريعته وأن الإنسان إنما يستمد كرامته من مدى التزامه لأمر الله وكلما قوي التزامه كان عند الله أكرم ، أما إذا تحلل من اتباع أمر الله فإنه يهبط بإنسانيته لمصاف الحيوانات فكان مسخهم على هيئة القردة لتناسب أفعالهم حقيقة حالهم، وقد نجّى الله الذين كانوا ينهون عن السوء وينكرون المنكر {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف:165].
ومفهوم الأمة الذي صوّره لنا القرآن الكريم يزيل من أمامنا كل العقبات التي تحاول تمزيق صف المؤمنين، لتجمعهم على الولاء للعقيدة وأنه كل من دخل في حماها تجمعهم وتوحدهم رابطة لهي أشد رسوخاً وأكثر ثباتاً وأوسع آفاقاً من كل العوالق والروابط الأخرى والتي أوردتنا سبل الفرقة والتشتت والنزاع لتكون بذلك رابطة العقيدة أقوى ومن رابطة الدم والنسب.
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن