خلط المُقَدَّسْ بالمُدَنَّسْ
إن الصراع بين المُقدس والمُدنس صراع أزلي، بدأ مع بدء الخليقة ولن ينتهي إلى قيام الساعة؛ لأنه الوجه الآخر للصراع بين الحق والباطل ، ولكن أصحاب النظريات والفلسفات الهدامة الذين يُجيدون التلاعب بالألفاظ استحدثوا هذا المفهوم وروّجوا له؛ بغرض خديعة الناس وتحقيق مآربهم الفاسدة.
إن تلاعب هؤلاء بالألفاظ يجعلهم تارة يُسمون هذا المفهوم "خلط المُقدَّسْ بالمُدَنَّس" وتارة أخرى يُسمونه "خلط المُدَنَّس بالمُقَدَّس" ولكن هدفهم واحد وهو تفريغ مظاهر الحياة من كل ما هو ديني.
ولكي يحقق أصحاب النظريات والفلسفات الهدامة هدفهم هذا، نجدهم يروجون لفكرة أنه "لا أخلاق في السياسة"، وأن "السياسة نجاسة"، وأن "الدين مُقدس" فمن البديهي –حسب زعمهم- ألا نقحم الدين في السياسة كي لا يتدنس... إلى غير ذلك من الأفكار التي تلبس الأمور على الناس.
إن هذا الفهم الشاذ لا ينخدع به سوى البلهاء السُّذج، فتراهم يرددون نفس المفاهيم ويبتعدون عن السياسة، ويدعون غيرهم للابتعاد عنها، فيترتب على ذلك استئثار الفاسدين بالحياة السياسية، وتخلو الساحة للفاسدين حتى يصبحوا وحدهم المسؤولين عن إدارة شؤون الحياة بما فيها المقدس "الدين".
وبعد أن تستقر الفكرة في الأذهان، يمارسون نفس الدور مع مجال آخر من مجالات الحياة. إن هدف أصحاب النظريات والفلسفات الهدامة هو أن ينكمش المقدس "الدين" في الواقع، وينحسر في النفوس، ويقتصر دوره على مجموعة شعائر وطقوس تؤدى في أماكن محددة وأوقات محددة وبطريقة محددة يحددها من في أيديهم زمام الأمور.
إن هدف أصحاب النظريات والفلسفات الهدامة هو أن ينكمش المقدس "الدين" في الواقع، وينحسر في النفوس، ويقتصر دوره على مجموعة شعائر وطقوس تؤدى في أماكن محددة وأوقات محددة وبطريقة محددة يحددها من في أيديهم زمام الأمور
إن هذه النظريات والفلسفات الهدامة تبناها الغربيون في بلادهم، ثم عملوا على نشرها وتشجيعها، بل وتمويلها في بلادنا، وللأسف فإن البلهاء السُّذَّج من المسلمين يتلقفون هذا الفكر ويروجون له، وكأن الإسلام قد حُرِّفَ حتى أصبح غير مؤهل لإدارة شؤون الحياة مثلما حدث للمسيحية واليهودية!
لماذا لم يسأل هؤلاء البلهاء السُّذَّج أنفسهم هذا السؤال: لماذا لا نعمل على تنظيف المُدنس - الذي هو السياسة والفن وغيرهما حسب زعمهم - بالمقدس - وهو الاسلام - ليحكمنا شرع الله الذي ارتضاه لعباده، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، في حياتنا كلها، عبادات ومعاملات وسلوك وأخلاق!
ألم يخطر ببال البلهاء السُّذَّج المنبهرين بالغرب أن الغرب قد جرَّب كل هذه النظريات والفلسفات فما زادته إلا تخسيراً وعناءً وشقاء!
ألم يدرك هؤلاء البلهاء السُّذَّج أن الغربيين باعتناقهم هذه النظريات والفلسفات قد عملوا على "تدنيس المقدس، وتقديس المدنس"! حين أداروا ظهورهم لكل ما يتعلق بالدين، واتجهوا بالكلية إلى تقديس المدنسات من شهوات وفواحش وموبقات!
ألا يرى هؤلاء البلهاء السُّذَّج حجم الإنفاق على الجنس، وتشريع القوانين التي تبيح الشذوذ بصوره المختلفة: بداية من الشذوذ الفكري وانتهاءً بالشذوذ الجنسي بكل صوره، والتي كان آخرها ما يسمونه الكلاب البشرية!
موقف الإسلام من هذه النظريات والفلسفات
إن الإسلام دين شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً، ولا يفصل بين الدين وبقية مظاهر الحياة ومجالاتها وأحوالها .
قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَاۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].
وقال تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].
ولقد حذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من أرادوا أن يشقوا على أنفسهم في العبادة ويبتدعوا لأنفسهم رهبانية ما شرعها الله لعباده ولا فرضها عليهم.
عَنْ أَنَسٍ بن مالك -رضي الله عنه- أنَّ نَفَراً مِن أَصْحَابِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- سَأَلُوا أَزْوَاجَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- عن عَمَلِهِ في السِّرِّ، فَقالَ بَعْضُهُمْ: لا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقالَ بَعْضُهُمْ: لا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقالَ بَعْضُهُمْ: لا أَنَامُ علَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عليه، فَقالَ: "ما بَالُ أَقْوَامٍ قالوا كَذَا وَكَذَا؟ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي" [رواه النسائي وهو حديث صحيح].
لقد ربى النبي -صلى الله عليه وسلم- صحابته الكرام -رضوان الله عليهم- على هذا الفهم القويم المستقيم، فكان منهم حفظة القرآن وكتبة الوحي، ومنهم المؤذن، ومنهم الخطيب المُفوّه، ومنهم الشاعر الفصيح، ومنهم القاضي العادل، ومنهم التاجر الأمين، ومنهم القائد المجاهد الشجاع، ومنهم سفراء الإسلام في البلدان والأمصار، وما تركوا مجالاً من مجالات الحياة إلا اقتحموها بحسن فهمهم، وشديد إخلاصهم، ورسوخ إيمانهم، ودأب سعيهم، ورقي أخلاقهم، ففتح الله على أيديهم القلوب والبلدان، وسادوا الأرض من أقصاها إلى أقصاها.
مظاهر خلط المقدس بالمدنس في مجتمعاتنا
إن مظاهر خلط المقدس بالمدنس في المجتمع كثيرة ومتعددة، منها المباشر ومنها غير المباشر، ومنها المُعلن ومنها المستتر، ولكن في النهاية فإن هدفها واحد وتغذي مفهوماً واحداً ومخططاً واحداً.
• عندما ترى حملة للفتيات، منهن من تقول إنها غير مُحجبة ولكنها تصلي، وأخرى تعلن أنها متبرجة ولكنها مؤدبة، وثالثة تتجرأ وتقول إن لها أصدقاء من الرجال، وتعدّ ذلك أمراً طبيعياً لا غضاضة فيه، وأن غير ذلك هو التشدد الذي ترفضه، فاعلم أنك أمام حملة لخلط المقدس بالمدنس!
• وعندما ترى مجموعة من الصديقات ترتدين أزياء مختلفة، منها الشرعي ومنها ما لا صلة له بالشرع ولا بالفطرة السليمة ولا بالذوق العام، ثم تجد من يشجع هذا المشهد ويقول "لا تعلم من أقرب إلى الله من بينهن" فاعلم أنك أمام حملة أخرى لخلط المقدس بالمدنس!
• عندما تشاهد "الغرّ" (طائر طويل الساق من طيور الماء، أَسود الجسم، يعيش على مياه البرك والمستنقعات) يسجد -عارياً- بعد الانتهاء من حفل غنائي راقص ارتكبت فيه كل الفواحش والموبقات والمنكرات، فاعلم أن هذا ليس أمراً عفوياً ولا ارتجالياً، ولكنه فرع من فروع الشجرة الخبيثة التي تروج لخلط المقدس بالمدنس.
- لقد شاهدنا خلط المقدس بالمدنس حين أهدت جمعية سعودية نسخة من خاتم النبوة لممثلة تهدم كل القيم وتتجاوز كل الحدود والخطوط بأعمالها الفنية الهابطة.
- شاهدنا خلط المقدس بالمدنس حين اختيرت راقصة لتفوز بلقب الأم المثالية.
- شاهدنا خلط المقدس بالمدنّس حين اختير "مكوجي حشاش" ليكون سفيراً للنوايا الحسنة، بل وكُرِّم في قلعة من قلاع الطب في مصر.
- شاهدنا خلط المقدس بالمدنس حين اختيرت صاحبة فيلم "اللحم الرخيص" لتكون سفيرة للسلام في فلسطين والعالم العربي.
- وشاهدنا خلط المقدس بالمدنس حين حددت راقصة موعداً لإحدى حفلاتها، ثم ذهبت لأداء العمرة، والتقطت صوراً لها بجوار الكعبة، ثم عادت بعد أيام لإتمام ما سبق الاتفاق عليه في جدول الأعمال.
إن خلط المقدس بالمدنس بالطرق التي استعرضناها -وبطرق أخرى كثيرة، لا يتسع المجال لذكرها- تُضّيِّع قدسية المقدس في نفوس الناس، فتكون النتيجة أن يصبح الإنسان من داخله كياناً مَسْخاً مُشوهاً أشلّ، أقذر من الصنم، وأبغض من الوثن، وأكثر عفناً من العفن، لا يغار على عرضه، ولا يغضب إذا انتهكت حرمات دينه، بل لا يتمعر وجهه إذا رأى الفاحشة في جوف بيته.
إن اللجوء إلى خلط المقدس بالمدنس جاء بعدما فشل خفافيش الظلام في نزع الدين من النفوس، ونزع حب المقدسات من القلوب، فأرادوا أن يجعلوا للناس ديناً من عند أنفسهم، يساعدهم في تنفيذ مشاريعهم المشبوهة ومخططاتهم الهدامة في بلاد المسلمين.
إننا يجب أن نزن كل ما يعرض علينا وما يعترضنا من مشكلات بميزان الشرع، ونواجه كل القضايا بحكم الشرع عليها، وليس بالعاطفة ولا بالشعارات الجوفاء التي تفرغ الأمور من مضامينها.
إن اللجوء إلى خلط المقدس بالمدنس جاء بعدما فشل خفافيش الظلام في نزع الدين من النفوس، ونزع حب المقدسات من القلوب، فأرادوا أن يجعلوا للناس ديناً من عند أنفسهم، يساعدهم في تنفيذ مشاريعهم المشبوهة ومخططاتهم الهدامة في بلاد المسلمين
وختاماً أقول:
إن سلوانا: أن الله تعالى قد تكفل بحفظ دينه، وكما جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: "إنَّ اللهَ تعالَى يَبعثُ لهذِهِ الأُمَّةِ على رأْسِ كلِّ مِائةِ سنةٍ مَنْ يُجدِّدُ لها دِينَها" [الجامع الصغير].
وثقتنا: أنّ "الإسلام إذا حورب اشتدّ، وإذا تُرِكَ امتدّ، والله بالمرصاد لمن يصدّ، وهو غنيٌّ عمّن يرتدّ، وبأسه عن المجرمين لا يُردّ، وإن كان العدوّ قد أعدّ فإنّ الله لا يعجزه أحد" [كما يقول الخطيب الإدريسي].
ويقيننا: أن الأمة الإسلامية عائدة لدين ربها لا محالة، وأن الدين سيشتد حتى يهتك سترهم، ويفضح أمرهم، ويُبطل كيدهم ومؤامراتهم، وحينها يقتلع شجرتهم الخبيثة من جذورها وأصولها، ويُطهِّر الأرض من دنسهم ورجسهم.
{وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا } [الإسراء: 51].
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة