هل سدّدت ديونك المعنوية (القلبية)؟
هل ذكرت أحداً بسوء، أو نقلت كلاماً سيئاً عنه، أو ظلمته، أو كسرت خاطره بكلمةٍ أو جرحته، أو اغتبته أو شتمته، أو نهشت عرضه، أو لمزته، أو رميته بالزنا أو السرقة؟
كلّ ما سبق هو "دينٌ معنوي" يبقى في رقبتك، وهو أصعب وأخطر عند الله من الدين المادي.. فالدينُ المادي قد يُسدده الورثة عنك بعد وفاتك -حُباً أو رحمةً بك- لكن "الدين المعنوي" أكبرُ عندَّ ربُّ القلوب؛ لأنّك الوحيد المسؤول عنه، ولا يستطيع أحد أن يسدده عنك ولو كان حبيباً أو قريباً؛ لأنهُ بينك وبين المدينَ له، فيقول الشاعر: "جروح السِنان لها التئامٌ ولا يلتئم ما جرح اللسان".
والذي لا يُؤدِّي الحقوق في الدُّنيا فسيؤديها يوم القيامة؛ ففي الدُّنيا سيُؤدِّي المال مالاً، ويمكن أن يعفو غريمه ويسامح، أمَّا يوم القيامة فسيؤدي ديونه من حسناته، والمفترض أنَّ الإنسان يحتفظ بحسناته؛ لأنَّه لا يدري هل ستدخله حسناته الجنَّة أو لا تكفي؟ فما هي الديون المعنوية (القلبية)؟ وكيف يمكن سدادها والاستبراء منها؟
الحقوق المعنوية أخطر من المادية
من جهته، قال الدكتور مروان أبو راس (رئيس رابطة علماء فلسطين) لـ"بصائر": "إنّ ضعف الوازع الديني والرقابة الإلهية، هما السبب الرئيس في الجرأة على الخوض في أعراض الناس وفي ظلمهم وسلب حقوقهم".
د. مروان أبو راس: الحقوق المعنوية أخطر من الحقوق المادية؛ لأنّ ضررها كبير والاستبراء منها صعب
وأضاف: أن "الحقوق المعنوية أخطر من الحقوق المادية؛ لأنّ ضررها كبير والاستبراء منها صعب؛ فعلى صعيد الحقوق المادية لو سرق أحد مبلغاً من المال ثمّ أعاده إلى صاحبه وطلب منه العفو والمسامحة فسيكبر في عينيه، وسيحترم توبته ويصدقها، لكن لو جاء أحد إلى شخصٍ ما وقال له: أنا اغتبتك، وأسأت إليك، وقلت فيك كذا وكذا، فلن يتقبل ذلك"، على حد تعبيره.
حال السلف الصالح
ونوّه أبو راس إلى أنّ السلف الصالح كانوا يتعاملون مع الحقوق المعنوية عبر تعزيز العلاقة البينية، وذلك عندما كانوا يقولون: "هيا نؤمن ساعة"، بمعنى العبادة الجماعية المشتركة التي تُقرّب العلاقة بين الناس بعضهم البعض، وتُقوّي العلاقة بين الناس والله، وهذه من أوثق العُرى في معالجة هذه الوساوس التي قد تصيب الإنسان.
وتابع: "علينا أن ندرك أنّ الصحابة، قد لا يكونون سلموا من هذه المخالفات، لكن سرعان ما يعودون إلى الله -سبحانه وتعالى- فقد يخطئ الإنسان، لكن الغريب أن يتكرر الخطأ ويتمادى فيه الإنسان، خصوصاً إذا كان هذا الخطأ يتعلق بحقوق الآخرين ، مثل: الغيبة والنميمة والإساءة والشتائم وما إلى ذلك مما يؤدي إلى مفاسد اجتماعية بينية كبيرة".
وأشار أبو راس إلى أنّ الصحابة الكرام كانوا يتعففون عن مثل هذه الأمور، فكانوا قدوة لنا في النهي والزجر والابتعاد عن هذه الإشكاليات، "وآيات النهي عن الغيبة والنميمة وتعظيم ضررها وجرمها عند المسلمين كثيرة".
وحول كيفية سداد الديون المعنوية، أوضح أبو راس: أنّ "هناك من قال إنه يجب المصارحة بها، وهناك من لم يقبل بهذه المصارحة؛ لأنها تزيد الإشكاليات والخلاف بين الناس؛ لأن البعض لا يتقبل الكلام السيء الذي قيل في حقه، ونفوس الناس في زماننا قد لا تتحمل الإخبار بما قد حصل من الغيبة والنميمة ونحوها من المظالم، وقد تتسبب بزوال ما بينهما من كمال الألفة والمحبة، أو تجدد القطيعة والبغضة، مبيناً أنّ الحل يكون بالتوبة إلى الله والاستغفار والدعاء لهم".
الإنسان مُكوّن من روح وطين
من ناحيته، قال الداعية الإسلامي الدكتور وائل الزرد: "إن الإنسان -كما هو معلوم عند بني البشر- ليس مجرد مادة خُلق من طين لا روح فيها ولا أحاسيس ولا مشاعر، بل إنّ الإنسان مكون من روح وطين، من مادةٍ وقلب، والمادة بلا شك كونها مادية من طعام وشراب وملبس وغذاء ودواء والنواحي المالية فهذا ما يلزمها وما تحتاجه، وأما الروح بلا شك تحتاج إلى المعاني القلبية والأمور المعنوية، والله -عز وجل- حفظ الإنسان مادةً وروحاً، قلباً وقالباً، وجعل الإنسان مُحرّم أن يُعتَدى عليه سواء بقضاياه وحقوقه المادية أو المعنوية".
د. وائل الزرد: الناس في الديون المادية يسارعون طوعاً أو كرهاً لسدادها في الدنيا نتيجة المطالبة الحثيثة لها، أما الديون القلبية تصبح أعظم خطراً؛ لأنّ المُطالَبْ بها يوم القيامة لا عز له ولا جاه ولا سلطان
وأردف: "فمن الحقوق المادية حرّم الله - عز وجل - الاعتداء على أموال الناس بالباطل، فقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ} [المائدة: 38]، كما حرّم الله الاعتداء على الإنسان فقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، لكن على الطرف الآخر هناك حقوق معنوية قلبية وليست مادية، وبالمناسبة يقول أحد الشعراء فيها مبالغاً: (جروح السِنان لها التئامٌ ولا يلتئم ما جرح اللسان)."
الإسلام وحفظ كرامة الإنسان
وأكد الزرد على أنّ الإسلام حَفِظَ للإنسان كرامته وعرضه وهيبته وشرفه سواء كان حياً أم ميتاً ؛ فقد نهى الإسلام عن الغيبة والتجسس والبحث عن عورات المسلمين والسخرية من الناس والتنابز بالألقاب واللمز فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات:11]، وكل ذلك من الأمور المعنوية الروحية التي يجب على الإنسان أن يراعيها، ومن ضمنها قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12].
عدم وجود القانون سبب لتجاهل الديون المعنوية
ولفت الزرد إلى: أنّ "الإنسان مطلوب منه أن يراعي حقوق الآخرين سواء كانت مادية أو معنوية، لكن للأسف أن الناس ينظرون إلى أمر المطالبة في الحقوق المادية فقط، وهم مُنكبّون حول السبل التي يمكن أن تعيد لهم حقوقهم المادية، وكذلك نجد "الظالمين" حريصين على سداد الديون المادية؛ لوجود مطالبة لهذه الحقوق ومحاكم وقانون ويمكن أن تودي بهم إلى المهالك".
وتابع: "أما في الحقوق المعنوية، مثلاً: فلان ذكر فلانا بسوء، أو اغتابه أو نهش عرضه، أو نقل كلاماً سيئاً عنه، أو لمزه أو رماه بالزنا أو السرقة، للأسف لا توجد عندنا محاكم ترد للناس المظالم المعنوية، وغاية ما يمكن أن يُرد لهم هو التأسف والاعتذار وانتهى الأمر".
قِصَر النظر عن الآخرة
وحول الدافع وراء عدم سداد بعض الناس للديون المعنوية، قال الزرد: "إنّ السبب وراء ذلك هو عدم وجود قوانين أو محاكم تردعهم فيستهينون بها، بالإضافة إلى قِصَر نظر هذه الطائفة من الناس عن الآخرة، فلو أنهم عظم في قلوبهم الوقوف بين يدي الله تعالى، واستحضروا قوله: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة:1]، وقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات:24]، وقوله: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} [القمر:53]، وقوله على لسان المجرمين: {مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] لو استحضروا هذا الوقوف لكفّوا كثيراً عن الخوض في حقوق الناس المعنوية، وديون الناس القلبية.
لماذا يعد الدين المعنوي أخطر من غيره؟
ونوه الزرد إلى أن الحق المعنوي والدين الروحي يُعد أخطر من الدين المادي؛ لأنّ الناس في الديون المادية يسارعون طوعاً أو كرهاً لسدادها في الدنيا نتيجة المطالبة الحثيثة لها، ولوجود المحاكم والقوانين التي تكفل ردع هؤلاء وارغامهم على إرجاع الحقوق لأصحابها، أما الديون القلبية تصبح أعظم خطراً؛ لأنّ المُطالَبْ بها يوم القيامة لا عز له ولا جاه ولا سلطان: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34-37]، مشدداً على أن الدين المادي يمكن أن يسدده أي شخص عن المتوفى، مستدركاً "لكن الدين المعنوي لا يمكن أن يسدده أحد إلاّ صاحب الشأن" .
كيف يمكن التخلص من الديون المعنوية
وللتخلص من الديون المعنوية، أوضح الزرد: أنه "ينبغي أولاً أن يتخفف الإنسان من كل دين يلحق به في الدنيا والآخرة، وأن يحرص على ألا يقع ما استطاع إليه سبيلا، وأن يجعل بينه وبين الولوج في أعراض الناس وحقوقهم المادية والقلبية حيزاً طويلاً كي لا يقترفها".
واستدرك: "لكن لكوننا بشر وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، شُرع لنا إن أخطأنا أن نتوب، وإن أذنبنا أن نستغفر، ولا ينبغي أبداً إذا ستر الله العبد أن يسعى العبد لفضح نفسه، فهناك من الديون المعنوية القلبية ما يمكن أن تُجبر وتُسد، ولا يشترط فيها أن يذهب لصاحب الدين وأن يُطلب منه السماح، لأنه قد يتسبب في مشكلةٍ أكبر".
وختم الزرد حديثه بالقول: "إنّ العلماء ذكروا خلقاً آخر جميلاً فقالوا من اغتاب أحداً فعليه: أولاً/ أن يستغفر ويتوب بينه وبين الله، ثانياً/ عليه أن يذكر هذا الرجل أو المرأة التي اغتابها في نفس المجلس أو مجلس آخر بكلامٍ جميل ويُثني عليه خيراً، وهذا بلا شك ينزل عند الله منزلة: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] وقوله - صلى الله عليه وسلم: "وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ بالْحسنةَ تَمْحُهَا" (رواه أحمد).
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة