وتحررت العصفورة
التاريخ:
758 مشاهدة
حنقٌ شديد أصابها حينما سمعتْ صوت والدها وهو ينادي عليهنّ بصوته الجَهوَريّ: "منذ شهر وأنتن تُصَدِّعْن رأسي: نريد جلابيب جديدة.. نريد جلابيب جديدة؛ لماذا التأخّر إذن؟ أنتظرُكُنّ منذ ساعة.. هيا أسرعن"..
هتفت (لمى) وعلامات عدم الرضى والانزعاج بادية على مُحيّاها: "من يسمعه يظن أنني أيضاً من يلحّ عليه... لو ترك لي حريّة الاختيار بدل أن يفرض علينا لبس الجلباب فرضاً لكنت ارتديت كما ترتدي معظم المحجبات؛ عندها لوفّرتُ عليه المال؛ فالثياب أرخص وأجمل.. لماذا هذا التزمت والتعصّب؟! لا أدري وكأنه...".
قاطعتها (فاديا) أختها الكبرى مؤنِّبة: "آخ منكِ... متى ستتوقف هذه الأُسطوانة التي نسمعها منكِ كلما أردنا أن نقوم بأمر ما؟!".
ألقَتْ (لمى) جلبابها أرضاً وصرخت: "لن تتوقف ما دام كلَّ شيءٍ حراماً... وما دام كل شيء يفرضه علينا والدكِ فرضاً بَدْءًا من الحجاب، وصولاً إلى الجلباب".
دبّتِ الحميّةُ في نفس (سناء) التي لم تتجاوز الثالثة عشر من العمر مدافعةَ عن والدها: "إنّ والدي لم يفرض علينا الحجاب والجلباب بل الله تعالى هو من فرضه علينا... إنّما والدي يشجعنا ويحثّنا على الالتزام بما أمرنا الله تعالى به...".
نظراتٌ نارية رمقت بها (لمى) شقيقتها الصغرى بينما خرجت الكلمات بصعوبة من بين أسنانها: "اسكتي آنسة فصيحة... لم أسألك عن رأيك بالموضوع... ".
ردّت (سناء) بعصبية بالغة: "ولكنه والدنا ولن أسمح لكِ بالحديث عنه بسوء...".
قاطعتها (لمى) صارخة: "ومن عيّنك محامي دفاع عن العائلة؟!".
وسبقت الأيدي ألسنةٌ حِداد وتعالت الأصوات وتطايرت العبارات وتدخّلت الأم محاولة تلطيف الأجواء، إلا أنّ ثورة (لمى) لم تهدأ: "إن لم تأمريها بالسكوت فسأقوم بإسكاتها بنفسي سئمت كثرة التدخلات من الكبير والصغير...".
همست الأم: "اخفضي صوتك إن سَمِعَكِ والدك فستقع كارثة".
أشاحت (لمى) بوجهها بعيداً وواصلت تذمرها وبثَّ شكواها غير مكترثة: "فليسمع... كل شيء... ممنوع... ممنوع... حتى إبداء الرأي ممنوع!!!... إلى هنا وصل القمع والديكتاتورية!!... متى سأخرج من هذا السجن؟ متى يا ربي؟".
حملَتْ حقيبتها وهرولت إلى الخارج وهي تتمتم بكلام غير مفهوم... لم يكن الأب بحاجة للسؤال ليستفسر عمّا جرى، فهو يعرف (لمى) جيداً؛ فهي حاملة لواء المعارضة في البيت.
ألم كبير اعتصر فؤاده وهو يتأمّل (لمى) واقفة صامتة حزينة مكتوفة الأيدي لا تشارك أخواتها اختيار الجلابيب المناسبة فهمس في أُذُن زوجته بصوت ينمّ عن مدى الحرقة التي يشعر بها: "أين أخطأت؟ هل معاملتي لهنّ تتسم بالشدّة والقسوة؟ انظري إلى أخواتها لا يتعبنني مثلها... هل هذا جزائي لأني أخاف عليهن؟ أحياناً أشعر برغبة شديدة بضربها وتلقينها درساً لا تنساه طوال عمرها... ولكني لا أريد أن تنفر مني أكثر من ذلك".
علا صوت الأم معاتباً بينما نظرات الإشفاق لم تفارق عينيها: "هذا كلام يُقال ؟! تضربها؟!..." وربتت بحنان على كتفه وأكملت قائلة: "أنت تعلم أنّ هذا سنّ المراهقة فهي لم تتجاوز بعد السادسة عشرة من العمر فطبيعي أن تعترض أحياناً وتتذمر، ثمّ لا تنسى الأجواء المحيطة بها، فأغلب بنات العائلة سافرات حتى المحجبات منهن يتبعن أحدث صيحات الموضة ويعشن حياتهن كالأخريات... ستدرك (لمى) يوماً أنك ما أردت سوى الحفاظ عليها... لا تقلق وتوكّل على الله... وعليك أن تتحلّى بالصبر وطول البال".
حاول الأب ملاطفة بناته في طريق العودة بناءً على اقتراح زوجته: "ما رأيكن أن نتناول غداءنا اليوم في الخارج؟".
جذبت (لمى) شقيقتها من كمّها حينما سمعت اقتراح والدها وهمست في أذنها: "ألم يكتفِ بعد من نظرات الناس إلينا وكأننا خرجنا من أحد كتب التاريخ".
ندّت شهقة من (فاديا) تنمّ عن دهشتها الشديدة: "ولماذا هذا الشعور بالنقص؟ أخبريني؟".
قالت (لمى): "انظري جيداً إلى ما نرتديه! وحتى يزيد الطين بِلة والدتنا ترتدي النقاب وأبي يلبس ثياب أهل السُّنة... بالله عليكِ ألا نبدو كما قلت؟".
احتدمت نبرة (فاديا) عندما سمعت كلام أختها فعلّقت قائلة بغضب: "بل أقول لكِ... أنتِ انظري من حولك... انظري إلى تلك الفتيات الكاسيات العاريات يملأن الطرقات والشعور بالثقة يغمرهن!!... من منكما أحقّ بهذا الشعور؟" سكوت (لمى) شجّع (فاديا) على الاسترسال بالحديث: "أنتِ... نعم أنتِ من يجب أن يغمركِ الشعور بالاعتزاز والثقة لسببين.
أولاً: لأنكِ تطبقين ما أمرنا الله تعالى به.
وثانياً: لأنّ الله رزقك بوالدين ويرعيان الأمانة التي أوكلا بها. ألا تلاحظين أنّ كثيرات غيركِ محرومات من هذه النعمة؟ أم تريدين أن يكون والدنا ديّوثاً؟!".
سألت (لمى) مستغربة: "ديّوثاً؟ ما معنى ديّوث؟".
أجابت (فاديا): "الديّوث من يرى ابنته تمشي في الطرقات كاسية عارية متعطّرة متزيّنة، تكلّم هذا وتضحك لذاك وتخرج مع آخر، دون أن يحرك ساكناً بل قد يعمد إلى تبرير تصرّفاتها بدعوى الحرية الشخصية أحياناً... لأن يقسو عليّ والدي أحياناً لدفعي إلى مرضاة الله أحب إليّ من أن يسمح لي أن أفعل ما أشاء فأقع بما يغضب ربّ العالمين".
دافعت (لمى) عن نفسها قائلةً: "لم أقل أني أريد أن أكون مثلهن... أريد فقط أن أعيش حياتي بشكل طبيعي....".
ردّت (فاديا) مستهزئة: "بشكل طبيعي؟! آه فهمت... تقصدين عندما تتحررين من الجلباب، وتسمعين الأغاني وتخرجين مع صديقاتكِ إلى دور السينما، وتحادثين الشباب في المدرسة أو على الماسينجر، وتشاركين في الرحلات المختلطة... أليس كذلك؟ هذه هي الحرية التي تنشدينها؟!! ألا تعلمين أنّ هذا حرام؟ ".
تحشرج صوت (لمى) في حلقها فقالت بصوت مرتجف: "حرام حرام حرام، كل شيء حرام! ما هو الحلال إذن؟".
أحاطت (فاديا) كتفيّ شقيقتها بذراعيها وقالت لها بحنوّ: "عزيزتي ليس كل شيء حراماً، ولكن أنتِ من تبحثين في الدائرة الخطأ!! ليتكِ يا أختي تخرجين منها إلى دائرة الإسلام الرحبة ففيها مما يضمن العيش الطبيعي السعيد دون التعرّض لما يغضب الخالق جلّ وعلا... عيشي في ظلّ شرع الله وثقي بأنه سيملأ قلبك رضىً وفرحاً...".
لم تتفوّه (لمى) ببنت الشفة، بل أخذت تفكّر بكلام أختها الذي حوّل قلبها وعقلها إلى ساحتيّ قتال يتصارع فيهما دينها وفطرتها السويّة من جهة والهوى والشيطان والنفس الأمّارة بالسوء من جهة أخرى... سؤال حائر طرحته (فاديا) على نفسها وكأنّها على علم بما يدور داخل عقل وقلب شقيقتها: " لمن ستكون الغَلَبة يا ترى؟... هذا ما ستكشفه لنا الأيام" ثم تركتها ومضت تسير بجانب والدها.
بعد فترة اضطرت (فاديا) للخروج إلى السوبر ماركت لشراء بعض الحاجيات فاستأذنت والدتها: " طبعاً حبيبتي، واصطحبي معكِ (لمى) علّها ترفّه عن نفسها قليلا ًفهي على غير عادتها منذ أسبوعين"
في الطريق لم تدخّر (فاديا) جهداً لحث أختها على البوح بما يعتمل في صدرها وكانت تتأمّل عينيها الهائمتان كأنهما تبحثان عن شيء ما، وتفاجأت الأختان بـ(سيرين) صديقة (لمى) التي ما أن رأتهما حتى أقبلت تسلّم عليهما... تسبقها رائحتها العطرة التي ملأت الأجواء... أخذت عينا(لمى) تلتهمان ثياب (سيرين) التهاماً: بنطال جينز وبلوزة ضيقة وحزام ذهبي عريض يتدلى من أحد الجانبين وإيشارب مزركش يحاكي بألوانه فصل الربيع يكشف بعضاً من رقبتها...
وما إن أدارت ظهرها مبتعدة عنهما حتى تناهى إلى سمع الأختين صوت شاب يقول لصديقه: "بالله عليك تلك الفتاة محجبة.. وهاتان الفتاتان محجبتان؟!!".
فردّ الآخر: "شتّان ما بين الثرى والثريا!!"..
لم تتصاعد حمرة الخجل وحدها إلى وجنتيّ (لمى)، بل أيضاً الشعور بالعزّة والرفعة حملتاها عالياً وطارتا بها إلى فضاءات أكثر اتساعاً... قفلتا عائدتين إلى المنزل ولسان (فاديا) لا ينفك يردد بصمت: " الحمد لله الذي عافانا... اللهم ثبّتنا واهدِ (سيرين) واهدِ بناتِ المسلمين أجمعين... اللهم آمين".
دعاء (فاديا) هذا أخذ بمجامع قلبها واستجاش في نفسها مشاعر الإيمان الصادق... فأخذت (لمى) تحدِّث نفسها: "من يصدّق أن هذه العجوز - كما يحلو لها أن تسميها أحياناً - تكبرني بسنتين فقط".
لم تنبسا بكلمة وهما داخل المصعد، أطرقت (لمى) رأسها وراحت تسترجع من مخيلتها وجه أبيها فترقرق الدمع في عينيها وأخذت تلوم نفسها: "لا يصحّ أنّ أعامله بتلك الطريقة القاسية... صحيح أن أسلوبه قاس بعض الشيء ولكنه يريد مصلحتنا في الدنيا والآخرة... ما يحتاج إلى التغيير هو أسلوبه وطريقته بالتعامل معنا وليس الهدف الذي ينشده لنا"... تنهيدة عميقة خرجت من أعماق صدرها... أدركت حينها أنها بنعمة لو علمت قيمتها كلّ الفتيات سواء المحجبات (المودرن) أوغيرهن لحبَونَ إليها حبْواً... صوت شقيقتها الدافىء الذي همس باسمها: (لمى) قطع عليها حبل أفكارها وأجبرها على رفع نظرها لتفاجأ بقبلة حنون طبعتها (فاديا) على جبينها ثمّ قالت لها: "هكذا أريدك دائماً معتزّة بإسلامك وحرّة بإيمانك فمتى تجذّر هذا الشعور بنفسك سوف تجتهدين ليوافق سلوكُكِ ما وقر في قلبك... عندها تتحررين، وتخرج العصفورة من قفصها التي يُراد لها أن تكون فيه".
عند العشاء أخذت (فاديا) تروي تفاصيل لقائهن مع (سيرين) وبعد أن ذكرت مقولة الشابين ضحك الأبّ حتّى بانت نواجذه عندما بسطت (لمى) ذراعيها وأخذت تدعو: "اللهم ثبّتنا على طاعتك وزدنا إيماناً واهدنا واهدِ بنات المسلمين"...
اللهم آمين.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن