الحقيبة
لا تزال صورتها متألِّقةً أمام ناظري، تأبى أن تفارقَ خيالي، عنادها سكن أعماقي، وإصرارها الجميل غرس في قلبي رياضًا نابضًا بالحياة، مترعًا بالهناء.
ولا يزال صوتها العذْب الذي مُزج بهزهزات حبيبة، يطرب سمعي برجيعه وصداه، ولم تزل يدي تشعر بدفْء يدها ونحن نسير معًا، قاصدات معهدنا الحبيب، وأكاد أسمع نبرات صوتها الغاضبة وهي تردُّ على اقتراحي:
♦ كفى يا حبيبة، محاولات يائسة، مثلك لا يستطيع ركوب الجياد، وردها بإصرار:
♦ سأبقى أحاول حتى آخر لحظة مِن عمري، يا خديجة.
♦ لا تنسي أن نتائج كدِّنا وكدحنا سوف تعلق قريبًا، ويرجفني الخوف.
♦ ولِمَ الرجفة فنحن لم ندرس للحصول على شهادات ورقية؟ أريد الارتقاء يا خديجة، روحي تحلِّق بالدرجات العلا، وبها تحلم.
♦ وتتذكر خديجة ردها الذي حمل كثيرًا من المداعبة:
♦ أفهم من ذلك أنك لن تحزني إن لم تنجحي، وأردفت: كسابق عهدك!
♦ ربما أحزن، وقد تزورني عواصفُ غضب، لكنني سأسخر أنفاسي - بإذن الله - للتعلم، فليهدأ بالك، استمر شريط الذكريات يعلن تمردَه، ويرسل بريقه الناصع أمام عيني خديجة.
♦ إنها ترى ذلك الوجه الأعجمي الوضيء، وذاك الجبين الذي عجنته السنون، وتسمع تلك اللكنة الأعجمية التي لم تكن تخلو من مداعبات ومفاجآت، كم حلَّق روحانا في الآفاق!
♦ حاولتْ خديجة أن تهرب من ذلك البريق المبهج؛ إذ لم تستطع تحمُّل إشعاعاته المتتابعة، فرفعتْ نظرها وحدقت، فإذا بالحقيبة السوداء تجذب ناظريها، وتلدغها بعتابها الذي استمع إليه قلبُها الواجف، كانت حبيبة تعانقني بلهفة، وتتلمس ما في داخلي يوميًّا بيدين متوضئتين خاشعتين، كنت أحس بالسكينة تسكن قلبَها المطمئن، كم صعقني فراقُها لي على غير ميعاد! تأملي يا خديجة جراحاتي، وأخاديد آهاتي.
♦ مسحت خديجة دمعتين انسكبتا على وجنتيها، ثم قالت:
♦ أشهد أنني رأيتك تنعمين بيدي حبيبة، عندما كانت غارقة في بحور أحزانها، بعد فشلها الرابع في اجتياز امتحانها، بدتْ ساهمة تفكِّر باللاشيء، ولمحتها عندما أسرعتْ فجأة لاجتياز الشارع الرئيس بلمحة خاطفة، تمرغت في الأرض، وسقطت بجوار سيارة كبيرة مرَّت كالبرق، ورفعت خديجة يديها لتضغط على أذنيها؛ خشية سماع صدى صوت حبيبة المستغيث: حقيبتي يا خديجة.
♦رفعتك أيتها الحقيبة، وأنا أغالب ظني بأن فيك كنوز العجائز من الذهَب والفضة، مكثت عندي وقتًا وكانت تساؤلاتي تغالبني، لكنها لم تسيطر عليَّ، فلم أقترب منك؛ فقد كنت وديعة لدي، إلى أن أتى اليوم الذي حملتك فيه إلى صاحبتك عندما انتهى بها المقر في دار التأهيل الاجتماعي، وشاطرت الحبيبة الغريبة المُقْعَدة أيامها.
♦ لن ولم أنس استقبالها لي ولك، كيف أخذتك بلهفة المشتاق، وغمرتك بدمع رقراق، فهل كنت ابنتها الغائبة أم أمها الذاهبة؟ وأحست خديجة أن الحقيبة تدلي بشهادتها قائلة:
♦ شاطرتها كرسي المقعدين قرابة العامين، أصبح وأمسي وأنا فارغة القلْب؛ فقد استمد قلبها الواجف من قلبي ربيعه، وأصبحت قرة عينها الباكية، فقد حملت لها كنْزها حتى آخر لحظة من حياتها، ولم يكن على الأرض أحد أشد مني سعادة، أمسكت خديجة الحقيبة مخاطبة:
يا لك من مدللة! كم أخذت من فكري وتصوري نصيبًا! كنت إخالك ممن يخشى عليه من اللصوص؛ لكنك...
لكني رغم قدمي يا خديجة، وشحوب وجهي من ذرات غبارك، ما زلت أنافس الثريَّا في رفعتي وعزتي، ليس لأن تلك العجوز الأعجمية الطاهرة كانت تعطيني حقي من التقديس والتقدير، وتجدد عهدها معي بأنني كنزها الثمين الوحيد، لقد ودَّعتني صبيحة يوم كنتُ أغبطها على نور وجهها المتلألئ، الذي كاد يغمرني بإشعاعاته، ولن أنسى آخر كلمات كانت ترددها وهي تقلب أوراقي...
لقد رأيتها والله منكبَّة، وهي مُطمئنة على آيات كريمة؛ ﴿وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ﴾ [الشورى: 35].
فهل علمت وأدركت سر عليائي وكبريائي؟ فإنِّي لم أكن أحمل كنزها الحاضر؛ بل كنز العالم أجمع في الماضي والحاضر والمستقبل.
:
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن