أغلى هدية لأغلى سيدة !!
تتجدد مواقف الحياة يومياً، وتصعد وتنخفض بنا مجريات الأمور، غير أن بعض تلك المواقف تُحدث زخماً داخل النفس البشرية؛ فتظل تعيش أيامها على وقع تلك الأحداث، ثم ننساها أو تُنسينا مواقف أخرى أقوى منها وأشد تأثيراً .. تلك هي حياتنا وتلك نبضاتها وإيقاعاتها، ولعل من الجميل أن يسرد المرء شيئاً من ذاكرته يحسّ أنه يشعره بالدفء في حياة سريعة الخطى، هايجة بالأحداث، مضطربة بالمتغيرات ..
في أتون هذه الحياة تفقز إلى أذهاننا صوراً وقصصاً تثير عزائمنا إلى مراقي الإنسانية والشهامة، وترفع من معنوياتنا للرقي في مدارج الأخلاق ومكارم الخصال، وتدفعنا للبذل والعطاء والوفاء، ولعل قلمي يقف اليوم متأملاً قصة أحد الزملاء ممن أعرفه وأعرف حاله كان قد خطّ بدماء قلبه قبل أيام قصةً من الحب والوفاء عزّ نظيرها في مثل هذه الأيام التي فشت فيها أحاديث العقوق والحجود، وطغت فيها قصص النكران والجفاء على أحاديث المودة والصفاء ..
زميلي هذا شاب موفق للخير لم أكن أراه إلا في مواطن البر والعبادة والخير، تخرج طبيباً قبل عدة أشهر وتوظف في مجمع طبي، وأكمل نصف دينه وتزوج قبل بضعة أشهر، دفعه حبه لوالدته التي فارقها بعد زواجه فراق المحب لحبيبه، ففكر في هدية مناسبة لوالدته لعله يُعيد شيئاً من جميلها ويصلها بقليل مما منتحته من حبها وتفانيها، وعلى الرغم من بعض الديون التي لا يزال يقوم بسدادها، قام بشراء سيارة جديدة بقيمة ثمانين ألف ريال وأهداها إلى والدته عرفاناً بحقها واعترافاً بفضلها وشكراً لما قدمته من حب وتفانٍ وتربية لهذا الشاب ..
كان وقع الهدية على والدته وأسرته كبيراً وعظيماً، وموقفاً حميمياً مثّل كل معاني البر والوفاء، ولا أدري كم هي الدعوات التي خرجت من قلب والدته لتعطر حياة زميلي؟! ولا أدري كيف سيجازيه الله على بره ووفائه لوالدته؟! فهنيئاً له هذا التوفيق وهنيئاً لوالدته بهذا الابن البار ..
هذه القصة الموجزة قد لا تبدو مثيرة لبعض البارين من الأبناء ممن وفقهم الله للبر بآبائهم وأمهاتهم؛ ولكني أجزم أنها ستكون مبكية لفئة غير قليلة من الأبناء ممن فقدوا والديهم أو أحدهم ويتمنون صباح مساء أن لو أطال الله في أعمارهم وبقوا على قيد الحياة لكي يبروا بهم ويهدوهم مهجهم وأرواحهم، ألا ما أقسى تذكر الابن البار لوالديه – أو أحدهما – حين يغادران الحياة ويظل الابن يتمنى لحظة واحدة لكي يقبل جبينهما ويديهما !!
أسوق لكم أيها الكرام هذه القصة والجميع يعرف تقصير بعضنا في حق الوالدين لا أقول في باب الأعطيات والهدايا بل في باب الضرورات والمستلزمات وحوائج الحياة، فكم هم الآباء الذين يتجرعون كؤوس الفقر والفاقة والحاجة، ويرتشفون جرعات المرض والبؤس وأبناؤهم في دوحات النعيم يرفلون !! ولم تؤنبهم ضمائرهم ليعودوا على من كانوا السبب في وجودهم بقليل أو كثير مما منحهم الله .. وكم نشاهد في واقعنا للأسف من أبناء وبنات يبخلون على والديهم بكلمة لطيفة وجلسة هادئة بجوارهم واتصال رقيق وزيارة خفيفة وابتسامة لطيفة، فيا لقسوة قلوبهم وجفاء أرواحهم وقلة مروؤتهم، وصنف آخر من الأبناء انشغلوا بأعمالهم وسعيهم وأسرهم من زوجات وأولاد ونسوا أباً عجوزاً وأماً طاعنة في السن يقضون أيام خريفهم بين جدران الوحدة وحيطان الفراغ ، فحرموا أنفسهم جمال الحياة ورونقها وحرموا والديهم طعم الأسرة ولذة القرب من الأبناء والعيش في أكنافهم ...
إنه نداء صارخ لكل من أنعم الله عليه بأن أبقى والديه أو أحدهما على قيد الحياة أن يسبق الزمن ويتجاوز التسويف ويطّرح الكسل ليكسب دعوة صادقة ويقدم براً ينفعه في العاجلة والآجلة قبل أن تأتي لحظة الحسرة ويقول: ليتني بررت بوالديّ !! ليتني أهديتهما !! ليتني بررت بهما !! ليتني حققت أمانيهما !! ليتني أرضيتهما !! ليتني جالستهما !! ليتني أضحكتهما !! ليتني قضيت حوائجهما !! ((صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم درجات منبره الثلاث وكان في كل درجة يقول: "آمين" فتعجب الصحابة رضوان الله عليهم وسألوه فقال عليه الصلاة والسلام: أتاني جبريل فقال يامحمد: رغم أنف عبد أدرك والديه أحدهما أو كلاهما فلم يدخلاه الجنة قل: آمين فقلت: آمين ... ))
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن