ليست مجرد فسيلة
عُمري يا حَقْلي الواسِع، قد ورثتُك عن طفولتي جنَّة، وإذا بي عند حافَّة العمر أقف، لأجدكَ مليئًا بالحجارة والْحَصى، ترابُك جافٌّ، وزرعُك يابس، أوراقك صفراء، وزهورُك مَيِّتة!
قلتُ لنفسي: ماذا لو قامت الساعة في هذه اللحظة، وخارج أسوار عمري فسائل كثيرة من أحلام وطموحات؟ ماذا أكون فاعلة؟!
بعض ما أحتفظُ به مشروعات ضخمة هجستُ بها أمدًا من الدهر، تضخَّمَتْ في داخلي، فباتتْ كالنخيل والصفصاف، والآخر أُمْنيات صغيرة رقيقة حَلمتُ بها، فهي كالبنفسج والقَرَنْفُل والرَّيحان.
كنتُ كلما هَممتُ بغَرْس واحدة من هذه في حقول العمر، قلتُ لنفسي: ليس الآن، فلتنتظري حتى تتعلَّمي فنون الزراعة وغَرْس النبات، أو ترقَّبِي قدومَ مَن يُساعدكِ؛ فالمهمَّة شاقَّة عليكِ وحْدكِ، أو رُبَّما قلتُ: هيَّا كَلِّفي أحدًا غيركِ، وانصرفي إلى عملٍ آخرَ لا يتعبكِ، مالكِ وللغراس؛ فإنَّ لها أهلها، علماء أو دُعاة، خبراء في مجال الإصلاح، دَعِيها لهم، وفتِّشي عن نفسكِ في مكانٍ آخرَ؛ فهذه أرض بُور لا نفْعَ لها، وإن كنتِ قد ورثتِها عن طفولتكِ خضراء، فهل يُصلح العطّار ما أفسد الدَّهرُ؟!
وحين مررتُ بالحديث الشريف: ((إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقومَ حتى يغرسَها فليفعل))[1] ارتعد قلبي، وشعرتُ بأن الزمن قد باغَتَنِي، وحَرَمَني أن أصنعَ في عمري جنته، فقضيتُ أيَّامي أعدو أفكر في الوصول إلى غايتي الكبرى، ونسيتُ أنها لا تتحقق من فَرَاغ، وبأنَّ العمر لا يَخضر إلا بالعزيمة والإصرار، فعكفتُ أقلب تراب أيَّامي، أنتزع منها كلَّ العراقيل والسدود، وأنتشلُ ركام أحزاني فألقيه بعيدًا، وأجدُّ في تهيئة الأرض الملائمة لغَرْس الفسائل، وكان العمل مضنيًا، لكنَّه جدّ مُمتع، حتى وجدتُ الثمر في قلب العمر لا في آخره، ونظرتُ حولي حينها، وتساءَلتُ بِأَسًى:
إن قامت الساعة حقًّا في هذه اللحظة، على أيِّ شيءٍ ستقوم؟!
هل ستكون أيدي كل واحدٍ منَّا معفَّرة بالتراب، وهل كلُّ شخص سيُمْسِك بفسيلته الأثيرة، هل تراه سيتمكن من غَرْسها؟!
رُحْتُ أجولُ بفكري لأنظر إلى أيدي الناس، معظمها كانتْ فارغة، لا غراسَ فيها، تمامًا كما في حياةٍ انقضى شطرُها أو كلُّها في خواء، أفكار تافهة، أهداف سطحيَّة، أحلام لا تتجاوز ظلالهم، هل تستطيع تلك الأيدي المتْرَفة التي اعتادتِ الكسل أن تُمسِكَ بفسيلة ما وتزرعها؟!
ألن ترتجف يدٌ اعتادتِ الوهن، وتُبَعْثِر التراب؟ ألن تضطرب وتقلق، فتلقي بالفسيلة وتهرْوِل جزعًا؟ ألن تقبض برعب عليها، فتكسر أغصانها الغضَّة أو تقطع جذورها؟!
سنجد أيادي كثيرة معفَّرة بالتراب، وقد نظنُّ أنها قد حازت السَّبق، ونجحتْ في الزراعة قبلنا، لكن إن نظرنا أعمقَ نحو التراب، سنجد آثار الجريمة واضحة، فمن شبَّ على شيءٍ شابَ عليه، سنجد جُثثًا من الأغصان الخضراء مطروحة تحت أقدامهم، لم يعرفوا من منطق الحياة إلى القوَّة، فحاصروها بموت عقولهم، وقتلوا الجمال والْخُضْرة من كلِّ ما حولهم.
وسنجد سوادًا من الناس يحملون الشتلات الجميلة بِحِرْصٍ وعناية، يمسكون بها كما كانوا يمسكون مشروعات حياتهم على تفاوتها وتنوُّعها، يقفون جَنبًا إلى جنب، يشدون أزرَ بعضهم، ويجددون العهد والنِّيَّة على الثبات، وإكمال الطريق التي بدؤوها في الدُّنيا.
في آخر مُنعطف لهم نحو الآخرة، سيَتَجاهلون الصراخ وصَيْحَات الجزع، كما كانوا يفعلون تمامًا في الدنيا، سيتغاضون عن كلِّ أنواع الْهَلَع، قد تتشقق الأرض مِن تحت أقدامهم، وتتهاوى أبنية، وتسير جبال مِن مكانها، وقد تتفجَّر البحار، فتكاد تغرقُهم، وهم رغم ذلك يقفون في ثباتٍ، يُحاولون التماسُك قَدْرَ المُستطاع؛ لئلا تقع شتلاتُهم الرقيقة الخضراء مِن بين أيديهم.
لقد كانوا يتلمَّسون حقيقة الْحُلم وروعته، جوهره ومكنونه، وهم ينحنون بكبرياء لغَرْسها في قلب الأرض، كما كانوا ينحنون أمام العواصف، كما تنحني سنابل القمح المملوءة؛ لئلا تتكسَّر، وكما كانوا يخفضون جناحَهم للمؤمنين، فبمقدورهم الآن أن يُنفذوا غاياتهم الكبيرة، بذات التواضُع، وذات السمو.
سيغرسونها يومها بذات الإيمان الذي كانوا يتسلحون به في أيامهم الآفلَة، حين أَودعوا غِراسهم كلَّ ما تبقَّى في قلوبهم مِن حبٍّ وحُلم وطُموح.
سيشرعون برَدْم الجذور بعناية، وسيتأكدون من اعتدال الساق، وتألُّق الأوراق، وسيسقونها بعد ذلك كله بدموع الرجاء، يسألون الله الرحمة، وأن يتعهَّدَ قلوبهم بالعطف والغفران، لعلَّ آخر نبتة غُرستْ هي التي ستشهد بالخير لهم، ولعلَّها تكون سببًا في دخول الجنة، سيتمسكون بها كما تمسَّكوا بوازع الخير والإيمان طوال أيام العُمر.
[1] رواه أحمد (12512) واللفظ له، والبخاري في الأدب المفرد (1/168)، قال شعيب الأرنؤوط وآخرون: إسناده صحيح على شَرْط مسلم.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن