ممّ تعجبون .؟! وفيم تستنكرون؟!
كتب بواسطة الدكتور عبد المجيد البيانوني
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
1365 مشاهدة
طبّعَ بعض المُنافقين علاقاتهم مع اليهود علناً، فغضب المُؤمنون واستنكروا، وكتب بعضهم بيانات الرفض والشجب ، وهم يعلمون من قبل بلا امتراءٍ أنّ هؤلاء المُطبّعين قد مردوا على النفاق منذ عهد بعيد، والفرق أنّ ما كان بالأمس سرّاً مكتوماً، يستخفي به صاحبه ويتوارى، أصبح اليوم أمراً يستعلن به ويتباهى، ويتوقّح في استعلانه، ويتحدّى الأمّة، ولا يبالي بعقيدتها، ولا يقيم وزناً لحقّها وموقفها، كما أنّه يستجرّ فريقاً ممّن يُنسبون إلى العلم والدين، ويدورون في فلكه ، لأنّهم متطفّلون على بلاطه، يأكلون من مائدته، ويحطبون بليله، وينسجوا على منواله .. فكانوا وهناً ظاهراً لعزيمة الأمّة ، وفتنة لضعاف النفوس فيها ، وبلبلة لاجتماع كلمتها ، وشتاتاً لأمرها .. ومع ذلك كلّه ، ومثله ومثله .. فنقول كما علّمنا ربّنا : {... لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ... }[النور:11] ..
فالحمد لله الذي كشف عُوار هؤلاء المنافقين، وفضح دخائلهم، وهتك أستارهم وأسرارهم بأقوالهم وأعمالهم .. فلم يعد يرتاب بأمرهم مغفّل أو جاهل ..
وشأن المنافقين ليس جديداً طارئاً في حياة الأمّة، فمنذ أن بزغت شمس الهداية النبويّة في المدينة المنورّة، ذرّ رأس النفاق، وتطاول بعنقه، واستعلن بمواقفه .. وجاءت الأحداث واحداً تلو الآخر، لتفضح سرائر المنافقين، وتكشف دخائلهم ، وبعد كلّ موقف وفضيحة، كانوا ا ينتحلون الأعذار، ويحلفون الأيمان، ويجدّدون للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم العهود على الطاعة، وكان الوحي الإلهي يأتي دائماً ليفضح حجم كذبهم، الذي لا يقف عند حدّ، كما يفضح شدّة ولائهم للكافرين ، ممّا يعجز عن تصوّره المؤمنون، الذين طبعوا على صدق الولاء لله ورسوله، وطهارة القلوب ونقائها : {إِذَا جَاءكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون:1ــ2] .
وإنّ من سنّة الله في الدين والحياة أنّ مسيرة النفاق في الأمّة تزامنت واستشرت مع تألّق حركة بناء الأمّة، وزخم جهادها في سبيل دينها، وصراعها مع الباطل، وما فتح لها من أسباب الدنيا، وآفاق النجاح في كلّ ميدان ..
وكانت حركة النفاق الهدّامة في بعض وجوهها ـ مهما كان فيها من وهْنِ للأمّة وإيذاء، وهدم وتخريب ـ كانت تحدّياً للأمّة ، رفع مستوى وعيها بكيد أعدائها على اختلاف مللهم ونحلهم ..
وهي في بعض وجوهها أيضاً تمحيص لصفّ الأمّة، وفتنة لرجالها، وتمييز للطيّب من الخبيث من أبنائها ..
وهي قبل ذلك وبعده تكشف لنا عن سنّة إلهيّة في الخلق ، وفطرة في طبائع النفوس ، ينبغي أن يعيها المؤمنون ، ليحسنوا التعامل معها في بناء المجتمع ، وفي الدعوة إلى الله ، وفي كلّ شأن من شئون الحياة ..
وفي حركة بناء الأمّة في العهد المدنيّ، ولمزيد من توضيح معالم الحقّ، وفضح سرائر المنافقين وأساليبهم في المكر والخداع تنزّلت مع المواقف والأحداث سورة براءة، التي سمّيت: الفاضحة ، لأنّها عرّتهم من كلّ زور كانوا يتوارون خلفه في كلّ موقف .. وتنزّلت سورة « المنافقون »، بفضح مواقفهم، التي أسقطتهم في أعين أقرب المقرّبين إليهم .. وفي كثير من الأحيان أدّت مواقفهم الماكرة إلى عكس ما كانوا يخطّطون له ويبيّتون .. أفلا يحقّ بعد ذلك للمؤمنين أن يفرحوا بفضيحة هؤلاء المفسدين ، كيلا يكونوا فتنة لضعاف النفوس ، الذين تخدعهم المظاهر ، ويلتبس عليهم بزخرف القول الحقّ بالباطل ..
فلا ينبغي أن تفجأ خيار الأمّة تلك الطبائع الدنيّة المريضة ، أو تصدّهم عن المضيّ في المنهج ، الذي ارتضاه الله لهم ، وهداهم إليه ، واختطّ لهم نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم معالمه ، بسيرته العمليّة وهديه .. وكان عليه في جميع مراحل دعوته : {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ المُشْرِكِينَ} [يوسف:108] ، وهو قد تركهم على المحجّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلاّ هالك، فكان هديه صلّى الله عليه وسلّم نبراساً للأمّة يهتدون به في كلّ فتنة مدلهمّة ..
وإنّ الدين والتاريخ ليعلّمنا أنّ من سنن الله تعالى أن تختطف شعوب من الأمّة إلى حين، ولكنّ هذه الأمّة لا تجتمع كلّها على ضلالة، والحياة صراع بين الحقّ والباطل، والخير والشرّ .. وقد ينحرف بعض العلماء والمشايخ مهما كان شأنهم ، فتزلّ بهم القدم عن الحقّ لأسباب مختلفة، ويسيرون في ركاب الباطل، ويكونون تحت أيدي الطغاة، وأعواناً لهم على الشرّ وأبواقاً .. ولكن لا يزال في الأمّة طائفة قائمة على الحقّ، لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يضرّهم من خذلهم ، حتّى تقوم الساعة ..
وهذه الطائفة مبثوثة في فئات الأمّة كلّها؛ رجالها ونسائها، وشيبها وشبّانها، بهم تقوم حجّة الله تعالى على من خذلهم ، وهم شوكة في عيون أعدائهم، وحسرة في قلوب المنافقين، وغصّة في حلوقهم ..
أفليس لنا أن نقول بعد ذلك عن هذا التطبيع الأثيم : ( لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ) .؟!
فما تمرّ به الأمّة اليوم من محنة التطبيع مع العدوّ الصهيونيّ المغتصب، وقد سبقه في هذا الشرّ أمثال، هو باطل بكلّ اعتبار، لأنّه خارج عن سنن الله تعالى في الخلق، كما هو خارج عن سنن الله في الأمر، لأنّ التنازل عن الحقّ لا يقلب الباطل حقّاً، ولا المُجرم محسناً، ولا يسقط الحقوق ويضيّعها ، والظلم يبقى ظلماً، تأباه النفوس الحرّة الأبيّة، مهما طال الزمن، وتواطأ على البغي المجرمون المُتسلّطون .. وإنّما هو في حقيقته الساطعة يفضح نفاق المنافقين، ويعرّف الأمّة بأعدائها المُتستّرين ، بغِلالة زور لا تقي من حَرّ أو قرّ ..
وإنّ التاريخ القريب المعاصر ليثبت أنّ الأنظمة التي استجرّت إلى التطبيع الأثيم، كانت معزولةً عن شعوبها، غاية العزلة، بل وعن مؤسّساتها بدرجات متفاوتة؛ فهذه مصر التي كانت سابقة إلى هذا المستنقع، وقف فيها شيخ الأزهر الشريف الشيخ جاد الحق علي جاد الحق رحمه الله .. بفتواه الشهيرة في وجه طوفان التطبيع، وأعلن في بيان له نشرته صحافة العالم : ( أنّ من يذهب إلى القدس من المسلمين آثم آثم .. ) .
وعندما جاء رئيس الكيان الصهيوني/ عيزرا وايزمان في زيارة للقاهرة، وقد رتبت له الرئاسة لقاء مع شيخ الأزهر ( ويبدو أنّها لم تكن بترتيب مسبق مع الشيخ ). فما كان من أسد الأزهر الشيخ جاد الحق؟ إلاّ أن رفض مقابلته رفضاً قاطعاً، وقال : ( لن ألوّث يدي بمصافحة قتلة أطفالنا، ومغتصبي أرضنا). وأصرّ على موقفه المُشرّف ، ممّا سبّب حرجاً بالغاً لمبارك وحكومته) .
كما رفض رحمه الله بشكل قاطع حصول إسرائيل على مياه النيل ، وقال جملته الشهيرة: ( إن حصول إسرائيل على مياه النيل أصعب من امتلاكها سطح القمر ) .. وحملت العديد من الصحف العالمية هذه الجملة في صدر صفحاتها في اليوم التالي . فكان موقفه خير تعبير عن ضمير الأمّة الحيّ الأصيل .. وهو نموذج من مئات النماذج في هذه الأمّة ..
كما أنّ تقارير الكيان الصهيوني كلّها تؤكّد أنّ الشعب المصريّ الأصيل بعيد كلّ البعد عن تقبّل شيء من التطبيع أو التجاوب معه .. فعلام يراهن الأغبياء الأذلاّء .؟!
فلا تفرحوا أيّها المنافقون المارقون عن دين الله، وسننه في الحياة .. فلن تكون عواقب كيدكم إلاّ إلى تباب وبوار .. {... فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ}[الرعد:17] .
إنّ سنن الله غلابّة، وذاكرة الأمّة لا تخون، والشعوب أقوى من طغاتها وأبقى، يذهب كيدهم ويرحلون، وهي تبقى ، وتمسح أعمالهم، وتحبط في الدنيا قبل الأخرة، وينفقون أموالهم لنصر الباطل، ثمّ تكون عليهم حسرة، ثمّ يغلبون .. { ... وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[يوسف:21] .
وأنتم أيّها المرابطون على ثغور القدس ، وأكناف الأقصى ، وأرض غزّة العزّة : {... اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران:200] .
{... وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227] .
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة