وقال الحجر
التاريخ:
572 مشاهدة
هذه الرحلة تراني أعد لها منذ أمد، كل ما فيها جديد، سنذهب إلى أماكن لم تطأها قدمُ سائحٍ بعد، وسنطل على أودية سحيقة، ونسير فوق جبال شاهقة، سنجري فوق أرض خضراء، ونستنشق أطايب العطر، ونتنسم حياةً جميلةً حلوةً نضرةً، فالشباب فتوة وحيوية، وانشراح وانطلاق بلا حدود أو قيود أو ضغوط، وأردف (شادي) محدِّثًا نفسه: سوف أخنق الصوت الهاتف في أعماقي قبل أن يعلو على السطح، أو يبدو صراعًا في واقعي، فأنا أريد أن أعيش وأستمتع دون منغصات، همِّي الأول والأخير لحظتي هذه، فأنا لن أنظر إلى الماضي؛ لأني لم أصنعه، والمستقبل لا يهمني، فليكن الطوفان من بعدي.
وخاطب محدِّثه قائلاً: فأنا يا عزيزي أريدها، أريد أن تكون معنا، فأجابه زميله بحماسة بالغة: لا تقلق، هي معنا بكل أنواعها، فردَّ عليه معاتبًا: لماذا تبدو متغابيًا؟! اسمعني جيدًا: أريد الاثنتين، قهقه زميله، وقال: اطمئن، هما معنا.
وفي اللحظة المحددة استقل الجميع مركباتهم، وأخذوا يسابقون الريح نحو اللاغاية؛ لأن الأماكن متقاربة النسبة في تحقيق غاياتهم، والطرق الوعرة الملتفَّة كثيرة في جبال بلدتهم، والوديان الساحقة متعددة، بينما تضيق الطرق إلى الجبال الشاهقة، وتذكَّر (شادي) بعض الطرق القديمة الملتوية المبهرة التي توصِّل إلى قريته الحالمة النائمة، فوجد أنه لا بد من ولوج بعض تلك الطرق، وسوف يحاول نسيان أسماء بعض الأراضي والبساتين المحيطة، وهم بدورهم لن يعرفوه أو يتعرفوا عليه، بعد أن غيَّرت المدنية حاله ولونه ولهجته، ووجد نفسه قائدًا لقافلة الشباب وسبَّاقًا في ولوج الطرق الترابية الوعرة، بل كان يتراقص طربًا لاهتزاز سيارته فوق مطبَّات الصخور والطين، وأخذ يتوغَّل في الطرق بنشوة بالغة، مما جعل بعض الشابات يترددن في الاستمرار، وأخذت الأصوات ترتفع مطالبةً بالتوقف، لكن (شادي) كان يطرب ويسعد كلما تقدمت سيارته أمتارًا بسيطةً، ويقنع الآخرين أنه سيختار لهم المكان الأجمل والأنسب والأروع؛ ليستمتعوا بساعات لن تمحوها الذاكرة، ولم يسمح للحسناوات أن ينسحبن، بل قام بتوزيعهن على سيارات الشباب الفوارس، فقالت إحداهن وهي تبكي: ليتني سمعت كلام (ماما) بأن أترك رحلة أصحابي وأذهب مع أهلي إلى الشاليه، ثم رفعت صوتها، وقالت: يبدو أن (شادي) كالغراب، يبحث عن أرض خراب، فضحك (شادي) ملء شدقيه، وقال: سوف ترين.
وضغط على مقود سيارته متحديًا العقبات، ومتناسيًا رغبة الرفاق بالأخذ بقسط من الراحة وشيء من الطعام والشراب، فقد قاربت الشمس على وداعهم مبكرًا، إذ كان يوم عطلتهم يومًا خريفيًّا مشطورًا بين حرارة الدفء وبرودة الأطراف.
يبدو أن سيارة (شادي) قد سبقت بمسافة ليست يسيرة، وهي التي تحمل الغذاء والكساء، وتحتضن الداء والدواء، كما يبدو أن توازنها بدأ يختل، ثم تباطأت واضطر (شادي) مرغمًا للتوقف بعيدًا عن الصحب والخلان، اللهم إلاَّ من الزمرة القليلة التي معه، والتي أحاطت به وأقرعته لومًا تصاعد إلى شجار بارد، فهرب من حرجه، وطلب منهم أن يحملوا أمتعتهم ويعودوا إلى أصدقائهم مشيًا على الأقدام وسط الحقول الخضراء التي لم تعد تبصرها عيونهم، لتكرار مقاومتها لدموع الألم والإعياء.
رفض بعضهم الاقتراح، ووافق الآخر شريطة أخذ قسط من الراحة داخل سيارة (شادي) الدافئة.
أخيرًا تنفَّس (شادي) الصعداء؛ فقد هدأت الأصوات حوله، كما انقطعت الاتصالات الخارجية والداخلية، وفي لحظة سوداء وجد نفسه اليقظ الوحيد بين الأرض والسماء!
طاف حول سيارته ليستطلع المنطقة، فوجد سيارته قد توغلت في طريق جميل لم يطأه من قبل رغم قربه من بلدته، فتراءى له شريط ذاكرته، إذ كان يقال: أنه قريبٌ من هذه الأراضي الخضراء وتلك التربة الدكناء ينابيع ماء، ومكان كان يفر منه وهو طفل وشاب، ولا يريد أن يدخله إلا مرغمًا صاغرًا.
كان يستذكر ماضيه، ويخطو في حاضره، وينظر إلى البعيد ليستطلع القادم، فرأى على مقربة منه جدارًا إسمنتيًّا أبيض قد كُسر جزء منه، فبدا للسائر كأنه طريق ترابي، تلك البقعة التي وقفت عليها سيارته، ورفضت التوغُّل أكثر، كأنها تعلن للجميع أن بقعة النهاية هنا، إنه يتأمَّل عجلاتها، فيراها كأنها دابةٌ جاثمةٌ على التراب تأبى الزحزحة.
أخذ يطوف حول سيارته ويفكر بطريقة ينظم فيها أفكاره؛ ليخرج من ورطته، فأخرج علبة اللفائف وأشعل واحدةً، وأسند ظهره على زجاج سيارته الخلفي بعد أن اطمئن على النائمين داخلها، فقال لنفسه: تبًّا لهذه الصحبة الغبية التي تهرب من تحمُّل المسؤولية بالنوم، يريدون أن أحل معضلة حياتهم وهم نيام، وأحملهم إلى أرض الأحلام وهم غائبو الوعي.
ثم توقَّف وارتعد من خشخشة شيء وسط الأعشاب، فانقطع حديثه مع نفسه، وأطفأ سيجارته بقدمه، وسار مشدوهًا نحو لوح حجري أبيض كان يلوح له في الأفق هاتفًا: "هنا نقطة النهاية، نهاية العلماء والأدباء والسفهاء، هنا تجد الصغير مع الكبير، هنا يقهر الشباب وتفنى القوة والفتوة العابثة، هنا نقطة بداية كما هي نقطة نهاية، هنا المقبرة ".
طأطأ (شادي) رأسه واغرورقت عيناه، وقرر أن يعود لسيارته، وأن يسلك طريقًا مستقيمًا من موقعه إلى النهاية، وقال لنفسه: لقد باح لي الحجر بمعانٍ لم يقلها البشر، وتذكَّر بيتًا من الشعر أخفق في إعرابه يومًا، لكنه سيتفوق في تحقيقه مستقبلاً بإذن الله:
وخاطب محدِّثه قائلاً: فأنا يا عزيزي أريدها، أريد أن تكون معنا، فأجابه زميله بحماسة بالغة: لا تقلق، هي معنا بكل أنواعها، فردَّ عليه معاتبًا: لماذا تبدو متغابيًا؟! اسمعني جيدًا: أريد الاثنتين، قهقه زميله، وقال: اطمئن، هما معنا.
وفي اللحظة المحددة استقل الجميع مركباتهم، وأخذوا يسابقون الريح نحو اللاغاية؛ لأن الأماكن متقاربة النسبة في تحقيق غاياتهم، والطرق الوعرة الملتفَّة كثيرة في جبال بلدتهم، والوديان الساحقة متعددة، بينما تضيق الطرق إلى الجبال الشاهقة، وتذكَّر (شادي) بعض الطرق القديمة الملتوية المبهرة التي توصِّل إلى قريته الحالمة النائمة، فوجد أنه لا بد من ولوج بعض تلك الطرق، وسوف يحاول نسيان أسماء بعض الأراضي والبساتين المحيطة، وهم بدورهم لن يعرفوه أو يتعرفوا عليه، بعد أن غيَّرت المدنية حاله ولونه ولهجته، ووجد نفسه قائدًا لقافلة الشباب وسبَّاقًا في ولوج الطرق الترابية الوعرة، بل كان يتراقص طربًا لاهتزاز سيارته فوق مطبَّات الصخور والطين، وأخذ يتوغَّل في الطرق بنشوة بالغة، مما جعل بعض الشابات يترددن في الاستمرار، وأخذت الأصوات ترتفع مطالبةً بالتوقف، لكن (شادي) كان يطرب ويسعد كلما تقدمت سيارته أمتارًا بسيطةً، ويقنع الآخرين أنه سيختار لهم المكان الأجمل والأنسب والأروع؛ ليستمتعوا بساعات لن تمحوها الذاكرة، ولم يسمح للحسناوات أن ينسحبن، بل قام بتوزيعهن على سيارات الشباب الفوارس، فقالت إحداهن وهي تبكي: ليتني سمعت كلام (ماما) بأن أترك رحلة أصحابي وأذهب مع أهلي إلى الشاليه، ثم رفعت صوتها، وقالت: يبدو أن (شادي) كالغراب، يبحث عن أرض خراب، فضحك (شادي) ملء شدقيه، وقال: سوف ترين.
وضغط على مقود سيارته متحديًا العقبات، ومتناسيًا رغبة الرفاق بالأخذ بقسط من الراحة وشيء من الطعام والشراب، فقد قاربت الشمس على وداعهم مبكرًا، إذ كان يوم عطلتهم يومًا خريفيًّا مشطورًا بين حرارة الدفء وبرودة الأطراف.
يبدو أن سيارة (شادي) قد سبقت بمسافة ليست يسيرة، وهي التي تحمل الغذاء والكساء، وتحتضن الداء والدواء، كما يبدو أن توازنها بدأ يختل، ثم تباطأت واضطر (شادي) مرغمًا للتوقف بعيدًا عن الصحب والخلان، اللهم إلاَّ من الزمرة القليلة التي معه، والتي أحاطت به وأقرعته لومًا تصاعد إلى شجار بارد، فهرب من حرجه، وطلب منهم أن يحملوا أمتعتهم ويعودوا إلى أصدقائهم مشيًا على الأقدام وسط الحقول الخضراء التي لم تعد تبصرها عيونهم، لتكرار مقاومتها لدموع الألم والإعياء.
رفض بعضهم الاقتراح، ووافق الآخر شريطة أخذ قسط من الراحة داخل سيارة (شادي) الدافئة.
أخيرًا تنفَّس (شادي) الصعداء؛ فقد هدأت الأصوات حوله، كما انقطعت الاتصالات الخارجية والداخلية، وفي لحظة سوداء وجد نفسه اليقظ الوحيد بين الأرض والسماء!
طاف حول سيارته ليستطلع المنطقة، فوجد سيارته قد توغلت في طريق جميل لم يطأه من قبل رغم قربه من بلدته، فتراءى له شريط ذاكرته، إذ كان يقال: أنه قريبٌ من هذه الأراضي الخضراء وتلك التربة الدكناء ينابيع ماء، ومكان كان يفر منه وهو طفل وشاب، ولا يريد أن يدخله إلا مرغمًا صاغرًا.
كان يستذكر ماضيه، ويخطو في حاضره، وينظر إلى البعيد ليستطلع القادم، فرأى على مقربة منه جدارًا إسمنتيًّا أبيض قد كُسر جزء منه، فبدا للسائر كأنه طريق ترابي، تلك البقعة التي وقفت عليها سيارته، ورفضت التوغُّل أكثر، كأنها تعلن للجميع أن بقعة النهاية هنا، إنه يتأمَّل عجلاتها، فيراها كأنها دابةٌ جاثمةٌ على التراب تأبى الزحزحة.
أخذ يطوف حول سيارته ويفكر بطريقة ينظم فيها أفكاره؛ ليخرج من ورطته، فأخرج علبة اللفائف وأشعل واحدةً، وأسند ظهره على زجاج سيارته الخلفي بعد أن اطمئن على النائمين داخلها، فقال لنفسه: تبًّا لهذه الصحبة الغبية التي تهرب من تحمُّل المسؤولية بالنوم، يريدون أن أحل معضلة حياتهم وهم نيام، وأحملهم إلى أرض الأحلام وهم غائبو الوعي.
ثم توقَّف وارتعد من خشخشة شيء وسط الأعشاب، فانقطع حديثه مع نفسه، وأطفأ سيجارته بقدمه، وسار مشدوهًا نحو لوح حجري أبيض كان يلوح له في الأفق هاتفًا: "هنا نقطة النهاية، نهاية العلماء والأدباء والسفهاء، هنا تجد الصغير مع الكبير، هنا يقهر الشباب وتفنى القوة والفتوة العابثة، هنا نقطة بداية كما هي نقطة نهاية، هنا المقبرة ".
طأطأ (شادي) رأسه واغرورقت عيناه، وقرر أن يعود لسيارته، وأن يسلك طريقًا مستقيمًا من موقعه إلى النهاية، وقال لنفسه: لقد باح لي الحجر بمعانٍ لم يقلها البشر، وتذكَّر بيتًا من الشعر أخفق في إعرابه يومًا، لكنه سيتفوق في تحقيقه مستقبلاً بإذن الله:
وَمَاتَ وَقَوْمٌ وَمَا مَاتَتْ مَكَارِمُهُمْ وَعَاشَ قَوْمٌ وَهَمْ فِي النَّاسِ أَمْوَاتُ
تَمَّت
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن