غربتي قربى لله
قدّر الله أن أغترب عن موطني تاركة ورائي لحظات مؤنِسة، وحياة كريمة حُفّت بالخير والعطاء، وبعد أن انتشر الاستقرار داخلي تيقنتُ أن كل ما حظيت به في موطني لم يكن كرماً مادياً فحسب، وإنما وصل إلى مكارم الأرواح التي تتوق لها النفس الإنسانية من الأنس والوئام، هذا كلّه خلفته ورائي فعرّجتُ ديارًا دعوتُ الله ألاّ أكون فيها ديّارًا، لا غفلة فتُودي بحياتي، ولا مصيبة فتكون في ديني.
بعدها أوجس في نفسي خيفة البُعد وألم الفراق، لا أعلم عاقبتهما، ولا طول مداهما، فساورتني هموم في ليل غاسق طويل، أترقب القرار الأمين،, ليشدَّ عضدي ويرفق بحالي مما أنا عليه.
وبحكمة إلهية، قادتني ثُلة من الخواطر، ساقتني لأتخذ من غربتي سبيلاً إلى ربي، وقُربة منهن، بأنْ يكون لي قَدَم صدق في مجريات حياتي، وملمات غربتي، وهذا القرار الأمين فتحٌ وتوفيق منه تعالى، بعدها أدركتْ نفسي التائهة أن عَوْنَ الله وتوفيقَه لا بد أن تسبقها أسبابٌ قِوامها الرضا والإيمان.
فقررت أن أعدَّ عدتي لأرسم خطواتي لتكون غربتي قربى لله، خطوات مهمدة، كأنها صرح ممرد من قوارير، أسير عليها على مهل خير وسكينة في رضا الواحد الدَّيّان، وأسأل الله أن تكون مسيرة مباركة ألقى فيها بقَبول حسن.
تمثلتٍ أولى خطواتي في المحافظة على وقتي؛ فهي ساعات عمر لا تعوَّض إذا ضيّعتها، ولا تُردُّ إذا خسرتها، والمحافظة على الوقت تبدأ من الحرص على أداء الصلاة فور سماع النداء، فتتحرك في نفسي نشوة تلبية النداء الرباني دون أن أقبل لأيّ تأجيل أو تسويف ولو بضع دقائق.
بعد تلبية النداء الرباني تتخلخل داخلي طمأنينة تحف جوانحي، فتستقيم أمور حياتي، ويهنَأ عَيْشي؛ فأنطلق من جديد وأسعى سعي المتحلِّق لأحقق طموح الخيرية التي أنشدها.
خطوتي الثانية كانت لسانٌ يلهَج بالذكر والاستغفار في كل وقت وحين، وتحرّي الأوقات الضائعة التي تكون في الحافلة أو في وقت الانتظار لأملؤها بذكر الله؛ فكم من مشكلات انفرجت؟ وهموم نَفِست؟ بعد أن حظيتْ بتلك الهبّات الربانية. أدركتُ أن للذكر طمأنينة في القلب، وشفاء للنفس، وبركة في الوقت والمال... فزاد تعلُّقي به؛ فحرصتُ وحرضّت عليه.
أما خطوتي الثالثة تكمن في أن لا سبيل لتفريج ما في القلب من ألم دفين، وحزن شديد، وهَمٍّ ثقيل إلا بالدعاء وطلب العَوْن من الله تعالى فى ساعات الضيق، ولحظات الشدة، وهذا وجدتُ ثماره في الجِد وتجديد العزيمة، وبَثّ الأمل لأُواصل مسيرة حياتي على رغم ما فيها من منغِّصات ترهق، وعزائم تزهق دون قيود تُعيقني عن النهوض، وكذلك مقابلة مصائب الدهر بالشكر والرضا، والإقبال على الله تعالى، وكما نعلم أن تلك المصائب يَسوقها الله لعباده حكمة أرادها ليخفِّف عنه ذنوباً أثقلته، وأوزاراً شقّت عليه سبيل الوصول إلى ما يريد.
رابعة خطواتي كانت تحمل قراراً صادقاً صدقتُ الله فيه ليوفقني في نَيْله، وهي أن أخصِّص جزءً من وقتي لأحفظ كتاب ربي حتى يحفظني الله من كل كيد يتربصه به أعدائي، وسوءٌ يدفعونه من أجلي؛ فأجد الحفظ والعناية الإلهية تحفني، وتشد أزري... إضافة إلى أنه كلما تضاعفت الهموم والكروب وضاق الحال أهرب لأتلو آياتٍ بينات؛ فأجد القرآن متنفَّساً لي فتنجلي ويشرح الله صدري بالقرآن.
خطواتي ليس لها نهاية تسدّ المسير لكن أختمها بخطوة التحلي بالصبر الذي يعينني على بقية الخطوات... الصبر خُلُق عظيم يتخلّق به أناس عظماء عرفوا عظمة أجر الصابرين الراضين بقضاء الله، وحياة المرء محفوفة بالمكاره والشدائد، والعظيم هو من يدركها ويعرف كيف يواجهها بكل ما أوتي من صبر وقوة؛ فمهما واجهتك رزايا الغربة من فتن مغرية تشد القلب الضعيف، وإيذاء مزعج يضيق الصدر العليل تصبّر واصبر ورابط وادفعها بالتي هي أحسن، وتسلّح بالطاعات والمسارعة إلى الخيرات، وأعلم أن المرء في غربته ليس مخلّداً فيها؛ فصبرك في ساعات الشدة يولِّد لك صبراً أجلّ وأعظم, ومن ثم أجر وثواب عظيم من عند مليك مقتدر.
فمهما وقفتْ أمامي المآسي والويلات، وسدَّت طريقي صخرة من العقبات.. أتذكر عظيم أجر الصابرين فيكون الصبر شيمتي. ومهما اجترحوا السيئات، وحاربوا الفضائل والخيرات، أقف شامخة محافظة على قيم نبيلة حتى يكون لي قدَم صدقٍ في مسيرة غربتي.
أصبر على طاعة وقول معروف أرجو عظيم أجره، وطلب علم نافع يخلف لي خيراً ونفعاً كثيراً.
من هنا أقول أنني وجدت الله معيناً وناصراً ليّ في غربتي... لأني دفعتها لأن تكون قربى لله..
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة