رمضان يتحدث إليكم
يا أبنائي: دورة من دورات الفلك انصرمت، وعام من أعوام حياتنا انقضى ومضى، فهكذا الدنيا! فلكٌ يسبح، وكوكب يجري، وشمس تشرق ثم تغيب، ما هذه الدنيا إلا أحلام نائم، وخيالٌ زائل، فالعاقل العاقل.. من اتخذها مزرعة للآخرة، وجعلها قنطرة عبور للحياة الباقية.
قال الشاعر:
مضى أمسك شهيداً معدَلا وأعقبه يومٌ عليك جديد
فإذا كنت بالأمس اقترفت إساءةً فثنِ بإحسان وأنت حميد
فيومك إن أعقبته عاد نفعه عليك وماضي الأمس ليس يعود
ولا ترج فعل الخير يوماً إلى غد لعلَ غداً يأتي وأنت فقيد
يا أبنائي: عدت إليكم من جديد، أجدِد فيكم روح الحياة بعد السُبات، أحمل لكم صورة الأمل المشرق بعد الظلام، أضمِخ فيكم أريج البنفسج بعد الذُبول، أفتِح لكم براعم الخير لتزهو مع الربيع، وتنمو من جديد في هذا الكون الوديع!
عدت إليكم لأرى الزرع الذي بذرته فيكم منذ عام، هل أبصر الحياة، أم أنه مات مع الأيام؟
يا أحبائي: هل تعرفونني؟ وهل تذكرونني؟ أم أنه مرَ عليكم عالم النسيان فما أبقى شيئاً؟ ولكن...! هل ينسى رمضان؟
إذن: فاسمعوني، واصغوا إليَ قليلاً فستعرفونني..!
هل تعرفون الورد يبتسم للندى؟
هل تعرفون الفراشات ترقص للأزهار؟
هل تعرفون البلابل تغني للجمال؟
هل تعرفون الحياة تتجدد بقدوم الربيع؟ هل تعرفون الروح تصفو بالآصال والأسحار؟
هل تعرفون العاشق المتيَم يذوب قلبه حينما تعاوده ذكريات الحبيب؟
إذا عرفتم هذا، عرفتم شعور المؤمن- الذي أتحدث إليه- حينما يهلُ عليه هلالي، أو تعاوده ذكرياتي:
فوجهه باسم متهلل بتباشير الرحمة، التي تنبعث مع أول خيطمن خيوط الفجر، في أول أيام قدومي، لتنير دنياه بضياء الرحمة، والمسامحة، والصفح، والغفران، في ظلال العبادة البدنية والسمو الروحي، والارتقاء الملائكي، والخضوع لخالق الأرض والسماء.
وقلبه خاشع ضارع، في محراب العبادة والتبتُل، يتغنى بكتاب الله ويرجِعه، في صفاء هذا الكون، بعد ن كفّت عنه آثام الشياطين، وأوصدت أبواب النيران، وفتحت أبواب الجنان، ففاضت أرواحها على الأرض لتغمرها بنعيم الحب والوفاء، والبشر والصفاء، والخير والعطاء، مما يجعل المؤمن الصائم، يحسّ بنوع من أنواع السعادة التي تنتظره في ذلك العالم الأبدي الخالد، فكأنَ معاني الأرض قد اكتست بمعاني السماء، فتتراءى للصائم بجوعه وعطشه وصفاء نفسه، تتراءى له الجنة وقد ازدانت لاستقباله، جائزةً له على صومه إذ يفرحه الله به حينما يقف يوم القيامة بين يديه.
وبذلك تتنفس آمال الصائمين، بعد أن كاد يقضي عليها الحزن والأسى، للأيام السوداء التي تمر على أمة الإسلام، في كل مكان، فتتجدد فيها الحياة، وتدبّ فيها القوة، وينبعث فيها النشاط، فيبدأ العمل الدائب من جديد، وكأنه خلقٌ جديد، فيواصل السير بسفينة الأمل بعد أن يطرد عنه أشباح اليأس، التي أفزعته أيام المحن، عسى أن يصل إلى شاطئ الأمن وبرِ الأمان حيث الحياة التي كان يتخيلها منذ أمد بعيد..
يا أحبائي: أنا الشهر الذي تفيض فيه المساجد بالملايين من المسلمين، بين عابد دائب،ونادم تائب، وراجع إلى ربه آيب، ينسلون إليها من كل حدب وصوب، تتطلع نفوسهم، وقلوبهم، وأرواحهم، وعقولهم، إلى رحمة الله التي تتجلى في لياليَ المباركة، وأسحاري المؤنسة، فيعتق كل ليلة ألف ألف عتيق من النار وأكثر..
أنا الشهر الذي تفتح فيه خزائن المؤمنين بما ائتمنهم الله عليه من مال ومتاع ليعيدوا التوازن إلى الحياة بإغناء الفقير، ودفع الضُرَ عن البائس المحتاج، بما فرض الله عليهم من زكاة أموالهم، وتزول الأحقاد من صفوف أبناء المجتمع..
أنا الشهر الذي تتداخل فيه أصوات المؤمنين الموحِدين بترتيل القرآن الكريم يجدِدون عهد الحبِ القديم للذي فطرهم وأنعم عليهم بترديد كلامه، والاسترسال في مناجاته.
قلوبهم له بالحب خافقة، وألسنتهم بالشكر له والثناء عليه ناطقة، وأعينهم بالدمع فائضة. نهارهم عما سواه صيام، وليلهم بين يديه سجودٌ وقيام.
أنا شهر الصبر والجهاد والتجلي على العباد، أدغدغ قلوبهم فيفرحون وأضيء لياليهم فيأنسون..
أنا الضيف الذي يحبون..
أنا.. شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
يا أحبائي: عدت لنلتقي.. لأحدِثكم... وحديثي معكم يطول...
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة