أ. عائشة عبد الله عزازي، بكالوريوس في اللغة الإنكليزية. مديرة تنفيذية لمركز تدريبي في الرياض.
مهندسُ بيئتنا
مهندسُ بيئتنا
سلمى طفلة بعمر الزُّهور تبلغُ من ربيع عمرِها السَّنة السادسة. نحيلةَ الجسم باسمةَ الثَّغر شعرها كسوادِ اللَّيل ينسدِلُ كظفيرةٍ مزيِّنًا كتفَيْها الصَّغيرَين. في عينَيْها فطنةً وذكاء، وتحملُ قلباً طفوليًّا مفعم بالحبِّ والنَّقاء. تتَّسمُ ملامحها بالبراءةِ والصفاء.
تبدأُ طقوسَها المدرسيَّة مع إشراقةِ الشمسِ كفراشة زاهية ألوانها. تُطفي على كلِّ منْ حولَها بهجةً وسروراً.
اعتادَت سلمى في الفسحةِ أنْ تشارِكَ زميلاتها وجبَتها الصباحيَّة واللَّعبَ معهم بشتَّى الألعاب. ينشدون المرَح والسرور، يتراكضُون وراءَ بعضهم يلعبون ويمرَحون، يتصايَحون ويضحكون.. كأنَّها زقزقة بلابل تُطرِبُ القلوبَ قبْل الآذان. وفي أحدِ الصبَاحات المُمطرة جلسْن يستمعْن لصوتِ المطرِ المنهمِرِ بغزارة، وأخذْن يتجاذَبْن اطرافَ الحديثِ عن مهنِ آبائِهنَّ، فقالَت تغريد: «أبي مهندسٌ يُهندس الطًّرق ويبني الأبْراج». وهتفَت سلوى: «أبي طبيبٌ يُعالجُ المرضى ويساعدُ الصغيرَ والكبير». وقالَت وفاء: «أبي مذيعٌ ينشرُ الأخبارَ ويغرسُ فينا حبَّ الأوطان». أمَّا سلمى فقالت: «أبي عاملُ نظافة يكنِسُ الشوارِع بهمَّة ونشاط، ويُزيلُ الأشواكَ والقذورات فتُشرقُ الطرقات لمعاناً وابتهاجاً». ولكنَّ بعض زميلاتها قطَّبْن جبينهنَّ باستعجاب، وهتفْن باستهزاء عاملُ نظافة!! مهنة ليس لها قيمة كباقي المهن. فاحمَرَّت وجنتَيْ سلمى وشعرَت بخَيْبَة أملٍ وخذلان، وعادَت إلى بيتها على غيرِ عادتِها مشغولَة الفِكر مهمومَة البال. سألتْها والدتها ما بكِ يا زهرتي؟! فأجابَت سلمى متردِّدَة و بصوتٍ ممزوجٍ ببَحَّة حزنٍ وانكسارٍ ما حدَث معها في باحَة المدرسة. فقالَت أمها: «المِهن كلها مهمة وإنْ كانت مختلفة فالطبيب والنَّجار والمهندس وعامل للنظافة وغيرها من المهن كلها مكمِّلة لبعضِها البعض، كالميزان إنْ اختلَّت كفَّته خرِبت الأوزان. وهمسَت لها: «ارفعي رأسك وافتخري بوالدكِ فقطراتُ عرقِه وخشونة يدَيْه وانحناء ظهرِه تعينًنا على مصاعبِ الحياة، دون العَوَز إلى النَّاس».
في أحد الأيَّام امتلأ شارع المدرسة بالقَذورات وتكدَّست أكياسُ النُّفايات على جوانبِ الطُّرقات وانتشرَت الحشرات وانبعثَت الروائح الكريهة وانكتمَت الصُّدور والأنوف وتعالَت أبواق السيارات. وتعثَّرَت تغريد أثناءَ ذهابِها للمدرسة بالنفايات ودخلَت المدرسة ملوَّثةَ الثياب وتأخرَت سلوى عن فصلِها لانسدادِ الطريق أمام سيَّارة والدها الطبيب. فتجمَّعَت الفتيات متسائلين عن هذا المُصاب. فعلِمْن بأنَّ العم رشاد والدُ زميلتهِنَّ سلمى يرقدُ بمستشفى الشِّفاء. عندئذٍ علمْن أهميَّة عمله. وأنَّه لا ينقصُ قيمة عن مهن آبائهنَّ. فقررْن الذهاب لزيارتِه ومواساة زميلتهنَّ سلمى وطلَب الصَّفح منها. فكل المهن مهمَّة وإنْ اختلفَت عن بعضها.
ورفعن أيديَهنَّ عاليًا لتحيَّة العم رشاد وهتفْن بصوتٍ واحد: «سلِمْتَ لنا يا مهندِس بيئتنا».
بقلم/ عائشة عبدالله عزازي
المصدر : أ. عائشة عبد الله عزازي
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة