فَادْخُلُوهَا خَالِدِين
أصابَتني مشاكل صحيَّة متتاليَّة ومتداخلَة ومفاجِئة، فاختلَّ توازني الصحيّ والنفسيّ، ورأيْتُ أنَّ الموت ليس بعيدًا عنِّي، فارتبَكْت كثيرًا: ماذا فعلْت استعدادًا للموت؟ كم هي حسناتِي؟ كيف كانت صلواتِي؟ صدقاتي؟ كم منَ النَّاس تحدَّثتُ عنهُم بما يُسيئهم؟ هل قبِل الله أعمالًا صالحة لي؟ كيف قضَيْت أوقاتي؟ وماذا عن علاقتِي بالقرآن؟ وهل الذِّكر يرطِّب لساني كلَّ يوم؟ ماذا قدَّمت للغدِ الباقي؟ هل في يوميَّاتي ما يستحق أنْ أقابل به ربِّي! ماذا سأقول عندما يسألني سبحانه وتعالى عن سنوات عمري وعلمي ومالي وأبنائي وما قلتُ وسمعْتُ وما رأيْتُ؟ وقبل ذلك، كيف سيكون وضعي في القبرِ المظلمِ الموحِش الضيِّق المخيف؟
وأخذْت أدعُو بكل دعاءٍ ظننته يُرضي الله عنِّي قبل أنْ أموت وأصبحت لا أرجو سِوى رحمة ربي وأحسسْت حقيقة بتلك السَّكينة الناشئة عن الاستغناء بالله عزَّ وجل، ورأيتُ كم أنَّنا صغار ضِعاف بدون معيَّة الله ولا حول ولا قوة لنا إلَّا به.
ثمَّ اكتشفْتُ نعمًا وهبَنا الله إيَّاها ولا نُلقي لها بالًا أو لا نشعر بها أساسًا، فتذوُّق الطعام والتلذُّذ بطعمه نعمة، وعدَم زيادة حساسيَّة الشَّم أو نقصانها عن حدِّها الذي جعله الله نعمة، والقدْرة على شرب القهوة دون قرَف نعمة، والطاقة المحرِّكة لأعضائنا فنقوم بأشغالنا نعمة، وذلك الأمْن الذي تهبَه لنا الصِّحة نعمة. أمَّا الصحة فما أروعها وأعظمها مِنْ نعمة ومَن ملكها فكأنَّما ملَك كل شيء! والنَّوم على أسرَّتنا ووجودنا بيْن أحبابنا واتِّساع منازلنا وتعدُّد اختياراتنا وقدرتنا على الضَّحك والكلام كلها هبات وأرزاق ونِعَم! بل حتَّى الروتيِن الذي نكرِّره كلَّ يوم ونظل نتأفَّف منه، هو أيضًا عندما نفقدُه نشعر بأنَّنا كنَّا في نِعَم.
وتعلَّمْت أنَّ لا شيء يستحق الصِراع أو الغضب أو القطيعة أو الحقد والحسد أو الحزن.. فمَن سلَّم عليَّ فأهلًا به ومن لم يسألْ عنِّي فلا مشكلة، ومَن وافق أنْ يعطيني ما طلبته جزاه الله خيرًا ومنْ رفض رغم أنَّه يملكُ الكثير فلا بأس، والجار المزعج لن أتقاتلَ معه وسأصبر عليه، وولدِي الذي أحزننِي تصرُّف منه أو قوْل سأدعو الله له بالهداية وأظل أرضى عنه حتَّى يعفوَ الله عنه، ولن أقفَ لأحدٍ على كل كلمة يقولها، سأسامح من ظَلم ولن أهتم لمن لم يردّ معروفًا... لعلِّي فهمْتُ كيف يجب أن أتعاملَ مع الدُّنيا فأجعلها تصغر في عينيّْ وتهُون وما عند الله من جنانٍ هو المستحق أن أحيا من أجله كل تفاصيل حياتي لأنَّه هو الحياة الحقيقية الباقيَة.
وبينما أنا مستمرة في حالة التأمُّل، تعجبْتُ منِّي ومنْ خوْفي منَ الموت! فأنا أعلمَ منذُ سنوات تعلُّمي الأولى أنَّ الدُّنيا دار عُبور وليست دار بقاء وقرار، وأعلم أنَّ رسولنا صلى الله عليه وسلَّم أخبرَ أنَّ الأرض بكلِّ مَنْ عليها وما عليها وبكلِّ ثقلهِا وخيراتهِا وأحداثِها لا تساوي عند الله جناح بعوضة! وأنَّ الله خلقَنا فيها للعبادة، وأنَّ رسولنا عليه الصلاة والسلام قال: "ما أنا في الدُّنيا إلَّا كراكبٍ استَظلَّ تحتَ شجرةٍ ثمَّ راحَ وترَكَها"، أي أنَّ كل حياتنا في الدُّنيا مهما طالَت تُشبه الزَّمن الذي يقضيه المسافر المسترِيح في ظلِّ شجرة ثمَّ يمضي.. فهل منَ العقل أنْ نتعبَ في الإعداد لمكان مؤقت زائل بل ونحبُّه ونتعلق به وننسى الإعداد للباقي الأبديِّ الدائم؟!
يبدو أنَّ التعلُّق بالدُّنيا يُنسينا كل ما نعرفه عنها، ويُنسينا الموت والقبر والحساب والعذاب والنار، بل.. ويجعلنا نظن أنَّنا قد ضمِنَّا الجنَّة!
أنْ تكون قبورنا روضة منَ الجنَّة تحتاج جِدًّا وإعدادًا، وأنْ نأخذَ كتبَنا بأيْمَانِنا ونحاسب حسابًا يسيرًا ونجتاز الصِّراط ونفوز بالجنَّة أمور ليست بالتمنِّي ولا بالأحلام بلْ تحتاج جهادًا وعملًا مخلصًا، فالجنة للمتَّقين الصالحِين التَّائبِين الأبْرار المنفقِين في السرَّاء والضرَّاء الكاظمِين الغَيْظ والعافِين عن النَّاس، الخاشعِين في صلاتِهم والمحافظِين عليْها والمعرضِين عن اللَّغو والفاعلِين للزَّكاة والحافظِين لفروجِهم والراعِين للأمانات والعهود، ثمَّ .. نرجو الله بعدَ ذلك أن نكون ممَّنْ أخبَر سبحانه عنهم {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}. ما أحلاها منْ نهايَة نرجُوها وما أحلاه منْ لقاء!!
المصدر : أ. إيمان شراب
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!