* ماجستير دراسات إسلامية من كلية الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى- بيروت
* مدير دار الفاروق للحفظ والتلاوة.
*إمام وخطيب مسجد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه - صيدا - عين الحلوة.
نعيشُ وإياكم عبر هذه السطور مع خُلق عظيم من أخلاق الإسلام، به يطاع اللّه، وبه تستقيم الحياة، ومن دونه لا يبالي المرء بمعصية اللّه، ولا يراعي مشاعرَ الناس وحقوقهم.
إنه خُلق الحياء الذي دعا إليه الأنبياء منذ فجرِ الزمان، واتصفوا به وتحلّى به الأتقياء العقلاء أصحابُ الفِطَر السليمة والطباع الآدمية الحميدة، الذين رددوا بلسان الحال والمقال قولَه عليه الصلاة والسلام: ' إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت'. رواه البخاري وابن ماجه.
وأصل الحياء من الحياة، أي حياة القلب، قال الإمام الواحدي رحمه اللّه: '.. الاستحياء من الحياة، واستحيا الرجل من قوة الحياة فيه لشدة علمه بمواقع الغيب'. شرح النووي على مسلم ٢/٥.
وقد تكون هناك علاقة بين الحياء وحوّاء، لأن اسم حواء أيضاً مشتق من الحياة، ولأن الأصل في طبع الإناث هو الحياء، فالنساء أولى به لذلك قيل: 'الحياء تاج المرأة والحشمة زينتها'.
كما أن هناك علاقة بين اللّحاء_ الذي هو قشر موجود على العود فإذا نزع عنه يبس ومات_ والحياء الذي إذا نزع من الإنسان فسد وهلك.
قال الشاعر أبو تمام:
يعيش المرءُ ما استحيا بخير/
ويبقى العود، ما بقي اللحاء
فلا واللّه ما في العيش خير/
ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
والحياء ممدوح ينبعث من الأدب والإيمان ، لذلك فهو ممدوح، خلافا ً للخجل فهو مذموم؛ لأن باعثه الخوف والجبن وضعف الشخصية ومن مظاهر الارتباك ومن آثاره السكوت عن الحق وضياع الحقوق.
وكذلك رغم اتصاف المؤمنات بالحياء فإن ذلك لم يمنعهن من طلب العلم والتفقه في الدين وقول الحق.
قالت السيدة عائشة رضي اللّه عنها: ' رحِمَ اللّه نساء الأنصار ما منعهنّ الحياء أن يتفقهن في الدين'.
لقد كثُر في هذا الزمان انقلاب الأمور وتراجع القيم وضعف الأخلاق ومنه الحياء، فبتْنا نسمع من البعض المجاهرة بسبّ الذات الإلهية لأتفه الأسباب وهذا من قلة الحياء: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}.
والذي لا يبالي بإضاعة الصلاة متعمدًا لا يستحي من اللّه: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}.
والذي يتكلم بالكلام البذيء أمام الآخرين لا يستحي من اللّه ولا من الناس: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.
والذي يظلم الناس بأكل أموالهم بالباطل أو يعتدي على دمائهم وأعراضهم لا يستحي من اللّه ولا من الناس: {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون}.
ومن مظاهر عدم الحياء أن ترى المرء يعقّ والديه أو يسخر من معلّمه أو يهينُ زوجه أو يستكبر على الناس..
ولعل من أخطر مظاهر عدم الحياء لدى الرجال والنساء: التعرّي واللباس غير المحتشم وكشف العورات، وعدم مراعاة الضوابط الشرعية والأخلاق الفطرية في العلاقة بين الجنسين: كغض البصر وعدم الخلوة والاختلاط والمصافحة .. إلخ، فضلاً عن دعاوى الشذوذ والإباحية تحت عنوان الحرية الفكرية والشخصية.
وقد نجم عن انخرام ستار الحياء شرورٌ كثيرة على الفرد والأسرة والمجتمع: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال عليه الصلاة والسلام: 'إن اللّه إذا أراد أن يهلك عبدًا نزع منه الحياء' رواه ابن ماجه.
ونظرًا لأهمية الحياء في ديننا ربط النبي صلّى اللّه عليه وسلم بينه وبين الإيمان في أحاديث عديدة فقال عليه الصلاة والسلام: 'الإيمان بضعٌ وسبعون شُعبة، أعلاها قول لا إله إلا اللّه وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان' رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
بل قال صلّى اللّه عليه وسلم: 'الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة، والبذاءُ من الجفاء والجفاء في النار' رواه الترمذي.
ويبين لنا النبي صلى اللّه عليه وسلم حقيقةَ الحياء فيقول: 'استحيوا من اللّه حق الحياء، قالوا: إنا لنستحي من اللّه والحمد للّه ، قال : ليس ذاك (أي ظاهر الحياء) من استحيا من اللّه حق الحياء فليحفظِ الرأسَ وما وعى والبطن وما حوى وليذكرْ الموت والبِلا، ومن أراد الآخرة ترك زينةَ الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من اللّه حقّ الحياء ' رواه الترمذي.
ولنا أُسوة حسنة في رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم والأنبياء والسلف الصالح.
أما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقد كان أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها (أي الفتاة الشابة التي بلغت حديثا)، وكان إذا رأى ما يكره احمّر وجهُه صلّى اللّه عليه وسلم.
أما الأنبياء فهم هُداة الخلق إلى الحق ومكارم الاخلاق: {أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ}.
ومنهم سيدنا موسى عليه السلام الذي اشتهر بالتستر والحياء حتى اتهمه بنو إسرائيل بأنه لا يفعل ذلك إلا لآفة في بدنه، فأراهم الله حُسنَ جلده وجمال جسمه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا}.
وفي قصته مع الفتاتين في مَدين ما يظهر لنا كمال خُلُقه في النّجدة والنخوة مع الحشمة والحياء والأدب في العلاقة مع الجنس الآخر.
قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِى حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} كانتا منفردتين عن الناس تحاشيًا للاختلاط ومزاحمة الرجال، (قال: ما خطبكما) رقّ لهما، ثم قال ما شأنكما؟ كلام قدر الحاجة فقط. (قالتا لا نسقي حتى يصدر) أي حتى يسقي الرعاة وينفضوا عن البئر (وأبونا شيخ كبير) أي الذي دفعنا للخروج إلى البئر الضرورةُ وضعفُ والدنا وكبره في السن.
(فسقى لهما) قام بمساعدتهما دون أن يتدخلَ في شؤونهما أو ينظر إليهما أو يتحدث معهما كما يحصل في زماننا، حين يلتقي شابٌ مع فتاة يتبادلان النظرات وأطراف الحديث ويضربان المواعيد ويأخذ أحدهما عنوانَ الآخر ورقم هاتفه، وتبدأ المفاسد والشرور.
{ثم تولى إلى الظل} لجأ إلى اللّه وحده وترك الفتاتين وشأنهما، ولم يستغل خدمته لهما لتحقيق أغراض أخرى، وفي زماننا يشكو الأطفال والفتيات والنساء من سوء الاستغلال، لا سيما الجنسي من أرباب العمل والزملاء والمؤسسات.. {فجاءت إحداهما..} تسير إليه في حياء بلا تكسر أو ميوعة {قالت إن أبي يدعوك...} هكذا بجدية واختصار دون خضوع في القول: {فلما جاءه وقصّ عليه القصص..} قال لا تخف.. إلى آخر القصة المليئة بالدروس والعبر.
أما السلف الصالح فحياتهم مليئة بالمواقف المعبرة عن الحياء الصادق ومنها:
عثمان رضي اللّه عنه الذي كان مضربَ المثال بالحياء، حين دخل عثمان على النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقام وسوى جلسته وستر ساقيه، فلما سئل عن ذلك قال: 'ألا أستحي من عثمان، ذلك رجل تستحي منه الملائكة' رواه مسلم وأحمد.
عائشة رضي اللّه عنها التي قالت: كنت أدخل بيتي حيث الحجرة التي دفن فيها الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وأبو بكر، فكنت أقول أبي وزوجي فأخلع وأضع ثيابي، فلما مات عمر دفن بجوار الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وأبي فاستحييت أن أخلع ثيابي، فكنت أشّدُ ثيابي على نفسي حياءً من عمر.
فاطمة الزهراء رضي اللّه عنها أوصت بعد وفاتها أن يوضع على نعشها أعمدةٌ على أطرافها حتى يرتفع الغطاء على تلك الأعمدة فلا يبين من حجمها شيئا مبالغة في الستر والتستر حتى بعد الوفاة.
وأخيراً لما جاءت فاطمة بنت عتبة بن ربيعة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم تبايعه على الإسلام مع نساء قريش، فلما سمعت قوله صلّى اللّه عليه وسلم: بايعيني يا فاطمة على ألا تشركي باللّه شيئاً ولا تسرقي ولا تزني...
فلما سمعت ولا تزني وضعتْ يدها على رأسها وأنزلت وجهها من شدة الحياء.
هؤلاء هم أسلافُنا فما أحوجنا إلى الاقتداء بهم في الإيمان ومكارم الأخلاق ونربي على ذلك أبناءَنا وبناتنا لنعود خير أمة أخرجت للناس.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
* ماجستير دراسات إسلامية من كلية الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى- بيروت
* مدير دار الفاروق للحفظ والتلاوة.
*إمام وخطيب مسجد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه - صيدا - عين الحلوة.
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة