مَولدُ الحياة
قد لا تجدُ - وإن اجتهدْتَ- أحدًا من البشر نال من الحبّ والإعجاب ما ناله رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فالمسلمون كلُّهم يتوجّهون إليه بالمحبّة والتعظيم، حتى وإنْ كان أحدُهم لا يكاد يُقيم بعض أركان الدّين!
أمّا غير المسلمين فهم بين مُنصِفٍ اتّبع، وآخرَ أبى، لكنّه - مع ذلك- لم يملك نفسَه من إبداء إعجابٍ بشخصه الكريم؛ قائلًا: إنّه رجلٌ عظيم، إنّه يملك صفاتٍ تُحبِّبُ إليه الناس، إنّه أحدثَ تحوُّلًا في وجه الحياة... لكنّنا نقول: في فجر ذلك الإثنين الأغرّ، من ربيعٍ الأول الأنور وُلِدتْ - بمولده الشريف صلَّى الله عليه وسلَّم- الحياةُ الحقُّ لنا، وهو معنا، حتى وإنْ غابتْ ذاتُه الرفيعة عنا في عالم الحسّ، وإنْ تتالَت الأجيال بعد غيابه، فنحن أحياءُ بتعاليمه، ومنهاجه، وهو يتملّك علينا المشاعرَ والأفكارَ والسلوك.
المولدُ الشريفُ عندنا ليس ذكرى وحسْب - على مزيد إجلالنا لتلك الذكرى- لكنّه استمرارُ وجود دعوة النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فينا؛ تُحيي واقعَ حياتنا، فلسنا ممّن ينعزل محبةً في الوجدان العميق، تاركًا الدنيا لأهلها يتحرّكون فيها ونجمد، ويُحيون واقعَها ونُمِيتُه.
أوَليس من نُحيي ذكرى مولده صلَّى الله عليه وسلَّم هو القائل - كما عند مسلم-: "ولا تسألوا الناسَ شيئًا"؟
أوَليس هو من هدم بمعوله وجِدِّه الباطلَ، وأشاد باجتهاده صرحَ الحقِّ، لَبِنةً لَبِنةً على مرأى من القريب والبعيد؟!
أوَليس ما جاء به يجعل من العمل عبادة؟!
أوَلم يكن - بأبي هو وأمّي- يتّجر، ويزرع، ويبني مسجدًا، ويحفر خندقًا، ويُعين أهلَه في بيته، ويَخيطُ ثوبَه، ويحلب شاتَه، ويخدُم نفسه، حتى إنّه لَيَخْصِفُ نعلَه؟!
هل بعد هذا كلِّه ننعزل عن مسرح الحياة، ونكتفي بمحبّةٍ في الوجدان؟!
إنّ أسلافَنا - وهم أعلمُ منّا بمقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم- قد هامُوا حبًّا به، لكنّهم عمَروا الأرض وبنَوا حضارة، وأرسَوا دولًا، وفتحوا بلادًا بجهادهم وتجاراتهم، وأحيَوا مواتَ أرضٍ بزراعاتهم، وقرّروا علومًا بل استحدثوها حتى كان لهم تصرُّف في كلّ شأن مهما صغُر.
نحن في واقعنا اليوم نختلف: هل نحتفل؟ أو نبدِّعُ من يحتفل؟ وكأنّنا قد أتْممنا التأسّيَ برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يعُدْ لدينا إلّا الترف في الاختلاف.
نعم، لِنُحبَّ ولْنحتفِل، ولنفرح؛ فإنّ فرحَنا برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يعدِله فرح، لكنْ ليكن مولدُه الشريف - صلَّى الله عليه وسلَّم- دعوةً إلى عمارة الحياة؛ تمثُّلًا بحياته القدوة، وأسوةً بفِعاله العُظمى.
وَكُلُّ النَّاس تُوْلَدُ ثُمَّ تَفنًى
وَوَحدَكَ أَنتَ ميلادُ الحياةِ
وَكُلُّ النَّاس تُذْكَرُ ثمَّ تُنْسَى
وذِكرُكَ أنتَ باقٍ في الصَّلاةِ
تُردِّدُهُ المآذِنُ كلَّ وقتٍ
وَيَنْبِضُ بالقلوبِ إلى المَمَاتِ
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة