مقاربات خاطئة
أثناء تصفّحك مواقعَ التواصل تخرج لك صور توازن بين حالتين، مثال ذلك صورة انتشرت مؤخراً تظهر مجموعة من طلاب جامعة في إحدى الدول العربية في مقبرة يتعلمون درساً عمليّاً عن دفن الموتى، وأمامها صورة لطلاب في جامعة غربية يزورون إحدى محطات الفضاء ويكتب تحتها بحزن عبارة من قبيل: (أين هم؟ وأين نحن؟)، أو (انظر أين وصلوا ونحن ما زلنا في مكاننا).
صورة أخرى تقارن بين أقذر طريق من طرقاتنا وأنظف شارع من شوراعهم، ومن قبيل ذلك أن تكون في نقاش علمي حول قضية شرعية في الطهارة مثلاً فيخرج لك أحدهم ويقول: الناس وصلوا للقمر وأنتم ما زلتم تناقشون قضايا الطهارة!
والأعجب من ذلك كلِّه أن تسمع عالماً من علماء الشريعة يتبنى تلك المقولات، ويزيد عليها ثم يبدأ بجلد الذات إرضاء لجمهوره، ويمتدح الغرب ويمتدح ديمقراطيتهم وحرياتهم وحقوق الإنسان في بلادهم ،وصناعاتهم الراقية، متغافلاً عن كل السلبيات، ثم يبدأ بانتقاد المسلمين بطريقة أو بأخرى فلا نظافة في طرقاتهم، ولا التزاماً بالقوانين في شوارعهم، ولا نهضة صناعية في بلادهم إلى غير ذلك، متغافلاً عن كل الإيجابيات التي ما زلنا ننتعم بها بما تبقى لنا من ديننا.
يسلّط الضوء على مسلم يلقي منديلاً ورقيّاً من نافذة سيارته (وهذا خطأ بلا شك)، ويتغافل عن طامّات الطهارة الشخصية عند الغرب وعن أمراض القذارة المنتشرة في بعض بلادهم، يسلّط الضوء على التزامهم بالقوانين ويتغافل عن شيوع الجريمة وانتشار المخدرات، يسلط الضوء على تقصيرنا بالالتزام ببعض القوانين ويتغافل عن التماسك الأسري في بلادنا، يسلط الضوء على تلميذ في مدرسة من مدارسنا تعاقبه معلمته بالضرب، ويتناسى اللّقطاء في بلادهم الذين لا يعرف لهم أب
هذه المقاربات الخاطئة وغير المقبولة، تلقى أذناً صاغية عند بعض المسلمين نتيجة حالة الهزيمة النفسية التي يعيشها كثيرون.
تسليط الضوء على سلبياتنا بغية معالجتها أمر مشروع بل مطلوب، والنقد الذاتي مطلوب، ومجتمعاتنا بحاجة ماسة إلى الإصلاح، ولا حرج في الاستفادة من بعض تجارب الآخرين وفق ضوابطنا، وفي الوقت نفسه الموضوعية في الطرح مطلوبة، والعدل مطلوب، ولا بدّ من ذكر الإيجابيات والسلبيات معاً، وجلد الذات مرفوض، والإعجاب المطلق بالغرب وتبني نظرياته دون تمحيص طامة كبرى.
عود على بدء: ما وجه المقارنة بين طلاب يتعلمون دفن الميت بالطريقة الشرعية وطلابٍ يزورون وكالة فضاء؟، هل يغني هذا عن ذاك وهل الذين يزورون وكالة فضاء لن يموتوا ويدفنوا مثلاً؟!
ثم أسأل سؤالاً: يوم حكم المسلمون الدنيا وتفوقوا في المجالات كلها في الفلك والطب والرياضيات هل تخلوا عن دينهم مثلاً !
ما علاقة وصول الناس إلى القمر أو المريخ بأحكام الطهارة هل لو وصلنا إلى المريخ مثلاً سيعفينا ذلك من الطهارة!
إن الحضارة لم تكن يوماً عمراناً ولا صناعة ولا تقدماً تكنولوجيّاً، الحضارة إقامة العدل والحضارة، إنها تربية الأجيال على القيم، والحضارة تماسك أسري، الحضارة إحقاق الحق وإبطال الباطل، الحضارة رحمة تتجاوز الحدود ولا تقتصر على المواطنين.
قال تعالى:{أوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)}، (سورة الروم).
أثاروا الأرض فاستخرجوا ما فيها من خيرات، وعمروا الأرض بالأبنية المشيدة والمصانع الضخمة.
لكنهم لم يُمتدحوا على فعلهم هذا لأنه لم يكن مقيّداً بشرع الله ولم يكن لنشر العدل ولا لإحقاق الحق ولا للتراحم والتكافل إنما كان كفراً وطغياناً وعدواناً.
فلماذا نرى اليوم بعض المسلمين ومنهم أهل فكر يمتدحون مدنية نشرت الخراب في الأرض، وانتقل عدوانها وطغيانها إلى كل مكان وصنعت أعتى الأسلحة وأشدها إجراماً وفتكاً وسلطتها على الضعفاء في مشارق الأرض ومغاربها.
لقد ضرب القرآن مثلاً بقوم عاد الذين تفوقوا في شتى ميادين الحياة في عصرهم:
{أتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)}، (سورة الشعراء).
فعادٌ بنوا الأبنية الشاهقة في الأماكن المرتفعة والبارزة وكانت لديهم نهضة صناعية كما كانت لديهم قوة عسكرية هائلة، فهل امتدحهم الله تعالى على ذلك أم ذمهم، وهل كافأهم أم دمرهم؟
ما أريد قوله هنا: إنّ البنيان المادي والتفوّق العلمي والصناعي والعسكري ليس محموداً في ذاته، ما لم يقيّده الإيمان والتقوى وما لم ينطلق أصلاً من تصور صحيح حول الإنسان والكون والحياة.
هذه عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد طغت وبغت وكانت دائرة دمارها واسعة:
{الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12)}، (سورة الفجر).
(طَغَوْا فِي الْبِلَادِ) حيث نشرت الفساد في كل البلاد لا في بلدهم فحسب (فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ)، فكان عاقبتها أن صب الله عليها سوط عذاب وأرسل عليهم ريحاً صرصراً عاتية.
هل سمعت اليوم عن إنسان يمتدح عاداً الأولى ويذكر فضائلها وبنيانها وصناعاتها وقوتها العسكرية؟ فلماذا نجد اليوم من يمتدح عاداً الثانية والثالثة والرابعة!
على كل حال لا مشكلة في أن نبين ما عندهم من إيجابيات ولا غضاضة في أن نستخدم بعض تلك الوسائل المشروعة في نشر ديننا ، ولكن لا يصح أن نتستر على عيوبهم بل على جرائمهم خارج بلادهم، ثم لا ينبغي أن نتناسى تاريخهم ونتغافل عن أن بعضهم كان سبباً مباشراً في إفقارنا وإذلالنا واستباحة دمائنا.
نعم، لقد استطاع الغرب بقوانينه الصارمة ورقابته المشددة أن يصنع إلى حد ما مواطناً صالحاً يدفع الضرائب، ولا يجرؤ على مخالفة قوانين السير ولا على إلقاء القمامة في غير الأمكنة المخصصة لها إلى ما هنالك، لكن الإسلام الحق يصنع العبد الصالح الذي يتحقق من عبوديته لربه قبل كل شيء ثم يكون صالحاً في كل مكان وفي كل زمان لا يقبل العدوان في بلده ولا خارج بلده.
إنّ من يكتفي بذكر إيجابياتهم ويكبرها ويظهر محاسنها ثم يكتفي بذكر سلبياتنا، ويكبرها ويتغاضى عن إيجابياتنا هو في حقيقة الأمر يدلس على الناس ويوهمهم بخلاف الحقيقة:
{وإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(152)}، (سورة الأنعام).
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن