أين أنت وأنا من رحيل أيام السنة
لحظات ينبغي أن يستدركها العبد العاقل في حياته القصيرة، مهما طال أمدها، وفي هذه اللحظات يمكن له أن يرى حقيقة غابت عن بصيص عينيه، ولم يراع حقيقتها المرة المذاق. ألا وهي أنّه ومن أول ما أبصرت عيناه نور الحياة، وخرج إلى هذه الدنيا ذات البهارج الباهرة، بألوان مفاتنها الظاهرة إنما هو بدأ العد العكسي لعمره وسنيّ حياته، من أول ساعة إلى آخر ساعة فهو بين كفَّي كمّاشة قد أحكمت قبضتها الحديدية على معصميه ليجد نفسه أسير السراب بانتظار أن يعود إلى التراب.
أجل، إنه سراب الأمل الموهوم الذي يحياه الناس في حياتهم وقد فاتهم أنه أول ما يبصرون نور الحياة فهم قد استهلوها بالبكاء والصراخ، فإذا هي بداية مرّ الحياة وليس ذلك بالطبع لمن أمِن مكر الله وعرف حدوده وأدّى ما افترضه عليه خالقه، فمثل هؤلاء سوف تكون حياتهم بكل سنينها وثوانيها نعمة لهم لا نقمة عليهم. ألم يقل ربّنا سبحانه في محكم كتابه الكريم: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وبالمقابل هناك أناس قال الله تعالى في أمثالهم: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ}. أجل نحن بما قدّمناه من قول إنما نريد التمييز بين صنفين من الناس لا ثالث لهما .
الأول: صنف يقطع كل يوم ورقة من روزنامة حياته فرحًا مسروًرا وما فرحه ولا بهجته إلا لأنه قد حفظ دينه بدنياه ولم يبع دينه بدنيا غيره فهو من الذين قال الله تعالى فيهم: { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، ومن الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس من طال عمره وحسن عمله".
ومثل هؤلاء هم أحرص الناس على اغتنام كل سنة تمرّ عليهم، كل أيامها وساعاتها في طاعة الله تعالى والتزوّد ليوم الرحيل لأنهم يعلمون مصداق ما قاله الله تعالى في شأن هذه الدنيا وقدرها: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما لي ولهذه الدنيا ما أنا والدنيا إلا كرجل استظلّ تحت شجره ثم تركها ومضى".
وقول إمام البلغاء سيدنا علي كرم الله وجهه: "ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فاليوم عمل بلا حساب وغدًا حساب بلا عمل".
وبالمقابل الصنف الثاني من الناس وما أكثرهم قد جعلوا الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم، وهم الذين ينتظرون نهاية كل سنة ليفرحوا بها فرح الشيطان بمعاصي أوليائه، وانغماسهم في أتون المنكرات والموبقات وهم لا تفارقهم سعادة. إنهم قد طووا عامًا من أعوام حياتهم وأصبحوا أكثر قربًا من أجلهم. ولكن ما تراه أعينهم خلاف ذلك تمامًا فهم يحسبون أنهم في متعة حرق الأيام ودفن أجمل مراحلها بعد أن كانوا كزرع أخضر ناضر في شباب يضج بالحياة إلى ذبول إلى رحيل وأفول، ولو أنهم استحضروا قول الخنساء رحمها الله لوجدوا فيه الماء الزلال: "بكيت على شبابي ملء دموعي فلم يغن البكاء ولا النحيب، ألا ليت الشباب يعود يومًا فأخبره بما فعل المشيب".
فإذًا هو يستحق فواته ومضيه السريع البكاء والعويل، وليس كما تعوّد عليه الناس في غالبهم، في أيامنا هذه حيث إنّ أكثرهم وهم منسوبين إلى أمة التوحيد، ولكنهم يشاركون أهل الشرك في أعيادهم ومنها ما يسمّى رأس السنة الميلادية، وذلك بنسبة التقويم الميلادي زورًا للسيد المسيح عليه السلام، ومن يشارك في مثل هذه المناسبات فهم يضيفون إثماً فوق إثمهم، لأنهم يضيّعون السنة بغضّ النظر عن مصدر تقويمها بسهرات ساقطة، ماجنة، وهم يفتتحون سنة جديدة من حياتهم بالمعاصي والذنوب.
وخير ما ينبغي التذكير به للناس الغافلين من المسلمين العصاة، ونحن على أبواب عام جديد، فهو بالنتيجة من أعوام سني أيامها لله أن يتقوا الله فيما مضى من أعوامهم بالاستغفار واستحضار ساعة المضي والخروج من هذه الدنيا حيث ستكون تلك السنون شواهد وحجة بالغة عليهم يوم لقاء الواحد الديان. والله نسأله السلامة في الدنيا والدين والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة