تلبيس إبليس... في الجرأة على الله ورسوله
لا يجد المسلم الحصيف الحاذق، فيما يتعرَّض له دينه الإسلام على مرِّ السنين والأيام بُدًّا من أيدي الشيطان الرجيم في كلِّ هذا التعرُّض. سواء بواسطة تلبيسه على ضعاف الإيمان، أو تعرُّضه بالتشويه والإيهام لما يخالف الأحكام، بالتغيير حينًا والطمس والحذف في أغلب الأحيان. وحتّى يكن كلامنا له أدلَّته وبراهينه، لا بُدَّ من حصره في مُرادنا منه، ألا وهو أنّه قد ظهر صنف من الناس في هذه الأيّام، وهم من جلدتنا وملَّتنا ويتكلَّمون بألستنا ويتجرَّأون في ما يقولون، على مواقع الإعلام المكتوب والمُشاهَد، غالبًا في مقابلات تتجرَّأ على الله، عندما تتجرَّأ على رسوله ورسالته وتفاصيل أحكامه في العقائد والعبادات والمعاملات.
وأوَّل هذا التجرُّؤ نجده في الفتيا بغير علم أو حتَّى في إقدام من هم أبعد الناس عن الدين من العصاة المجاهرين إلى الردّ على من يحذِّر من سلوكهم وانحرافهم الخلقي والتربوي. ويقولون من الآيات والأحاديث ما يريدون به لَيَّ النصوص وتحريف المنصوص إلى ما يوافق أهواءهم ويُرضي شيطانهم. فأمّا في الفتوى فلا يجد المحاور أيَّ حرج في أن يسمع أقوال من هم من أنصاف المتعلِّمين، وممَّن هم في مراتب من يقفون على شاطئ قطع أهل العلم أعمارهم ليصلوا إلى أعماقه. وتراهم يقولون ما حذّر الله منه سبحانه في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ النحل 116. وأيُّ كذب مفترى أكبر من الذين يقولون الحجاب ليس بفرض ولنا أدلَّتنا، وليست فوائد البنوك ربًا ولنا أدلَّتنا، وليس من آية صريحة في تحريم الخمر ولنا أدلَّتنا. وهكذا يجدون من أدعياء العلم الشرعي من يسايرهم ويركب مراكبهم. ويترك ذلك من الآثار السلبيّة عند ضعاف الإيمان في التأييد لهم والقبول بفتواهم التى تحكمها الأهواء والآراء الشاذّة.
وما يحكم هؤلاء القوم من مخالفات وتعارض مع ما هو صريح الحكم فيه في الكتاب والسُنَّة والإجماع إنّما هو الجهل. ولا شكَّ أنّ الإنسان هو عدوُّ ما يجهل. وأنّ جهل القوم مردُّه أنّهم ممّن أخبر رسول الأمّة عليه الصلاة والسلام عنهم في الحديث الشريف الصحيح:"إنَّ اللهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزعهُ مِنَ النَّاسِ، وَلكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوساً جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأفْتوا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأضَلُّوا"، متفق عليه. وأصعب من ذلك الجهل أن يعلم من يفتي بجهل ما يفتي به، ولكن يلبسه ثوب المعرفة، فيصبح جهلًا مركبًّا. وقد ظهرت إضافة إلى ما ذكرنا ومع غياب أهل العلم، وتحوُّل الناس إلى الفتاوى المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وفي بيوت كلِّ الناس، ويتناولها العالم والجاهل معًا. فلا هي تزيد العالم في علمه ولا هي تنقص الجاهل من جهله. وللأمانة نقول إن الواجب الشرعي يقتضي ردَّ العلم إلى أهله وليس في ذلك ثمَّة عيب أو إثم. والله تعالى يقول: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ النحل43. ولم يجد نبيّ الله وكليمه موسى عليه السلام حرجًا في أن يقول للعبد الصالح الخضر عليه السلام: ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ الكهف 66. وقد قيل: "من قال لا أعلم فقد أفتى". أمّا أن تصبح الفتاوى لكلِّ من هبَّ ودبَّ، ويصبح الدين عرضة للتلاعب ويضع من حفظ بضعة أحاديث وبعض أحكام الدين نفسَه في مقام العلماء العارفين فهذا إثم عظيم. يحمل خطاياه أصحابُه إلى يوم الدين. وقد فاتهم أنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانوا وهم بين يدي رسولهم والوحي ينزل عليه وهو بين أظهرهم، ومع ذلك كلِّه يقول أحدهم: "أدركت مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدُهم عن المسألة، فيردُّها هذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول". وهكذا يكون حفظ الدين بحفظ من هم أولى بالتصدّي لأحكامه بكلِّ أمانة وورع. وقد قال ابن سيرين ـ رحمه الله ـ ما يمكن عدّه أنموذجًا في الامتثال لما هو مثال: "إنّ هذا العلم دين فانظروا عمّن تأخذوا دينكم". ولا بُدَّ من القول لتعميم المراد قوله، إنّ فقدان مجالس العلم في المساجد في بلادنا والتي كانت تعجّ بها قبل عشرات السنين وتحوُّلها إلى المواسم الرمضانيّة أو الاقتصار على خطبة الجمعة اليتيمة، والتي أصبح يغلب عليها الوعظ والإرشاد أو على السياسة في غالبها، بعيدًا عن الأمور الحيويّة المُلِحَّة في الفتاوى الهامّة في حياة المسلمين. كلُّ ذلك فتح الأبواب وشرَّعها لتصبح الفتاوى تنتشر في غير مكانها الصحيح، ويستغلّها أعداء الإسلام للتعرُّض للدين الحنيف واتِّهامه أنّه دين يقوم على التناقض والتفاوت في الأحكام لا سيما في الحلال منه والحرام. وكلُّ ذلك بدافع إبليسي خبيث يريد اللعب على ما اختلف عليه العلماء، وتناوله ضعفاء الناس في عقولهم بأساليبهم. وجعلوه في متناول العوام بلا عدل ولا ميزان.
جعلنا الله ممّن يقفون على أحكام دينه ولا يتجاوزون حدوده والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن