نظرة عامّة في مُشكلات الكيان الإنسانيّ وعلاجها ـ الجزء الثاني
ها نحن اليوم في عالم الحداثة والإيديولوجيّات المَصنوعة أشياء مفكّرة، لا قيمة للأشخاص والشعوب إلاّ بمقدار ما تؤدّيه من خدمات وظيفيّة في نظام عالميّ طاحن، فمتى؟! متى نعيد الأخلاق إلى العلوم، فتعود للإنسان قيمته؟؟!!
وقبل فصل العلوم عن الأخلاق والقِيَمِ كان فصل الإنسان عن الله جلّ وعلا، وعن الوحي وهداية السماء.. كان تأليه الإنسان لينازع الله في كلّ خصائص الألوهيّة والربوبيّة .
ثمّ كان المُعلن صراحة من استراتيجيّات الغرب للسيطرة على شعوب الأرض هو:
الإغراق في مشكلات بينيّة على مستوى الأفراد والمُجتمعات، يعرفون حلولها، ولا يستطيعون الخروج منها.. هذا تعبيرهم بالحرف.. والأمثلة على ذلك كثيرة في كلّ المَجالات والمَيادين؛ السياسيّة، والإعلاميّة، ومناهج التربية والتعليم، وأخطرها ما يتّصل بالدين والسلوك الاجتماعيّ..
ولمَاذا لا يستطيعون الخروج منها..؟! لأنّهم غارقون، بل مستعبدون بالتبعيّة العمياء، التي تشلّ إرادتهم، وتفقدهم التحرّر الفكريّ..
وهذا ما يقودنا حقيقة إلى أن نعرف نقطة البدء.. فمن أين نبدأ إذن.؟ إنّ نقطة البدء أن نحدّد موقفنا من هذا الدين؛ عقيدة، ومَنهج حياة.. ولا ينفع في ذلك المُراوغة ولا اللجلجة.. فإمّا أن نكون مع علمانيّة تؤلّه الإنسان، ولا تعترف بحقّ الله المُطلق في التشريع.. وإمّا أن نكون مع وحي الله تعالى وتشريعه ومَنهجه الربّانيّ.. ولا ثالث لهما .
فما المَنهج الربّانيّ، الذي جاء به الإسلام في ذلك.؟!
إنّ القرآن يلخّص المَنهج الربّانيّ كلّه في التشريع في ثلاث آيات، يقول الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُون * أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة48ــ50] .
إنّ لنا شرعتنا الربّانيّة وَمِنْهَاجنا الكامل التامّ.. فإمّا أن نُحكم بشرعتنا، أو نحكم بالأهواء وشرعة الجاهليّة: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ..
ويقول الله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا...} [المائدة:3]. فهل نحن نتغنّى بهذه الآية فحسب.؟!
وإنّما سمّي المَنهج مَنهجًا لشموله لثلاثة جوانب.. للبناء، وللعلاقات، وللغاية، ولمَا له من الطبيعة والخصائص المُتميّزة..
فعندما تعرف الغاية، وتعرف معالم البناء وأصوله وطبيعته ووسائله، وتحدّد العلاقات مع الآخرين.. فلا يمكن أن يخرج عن المَنهج قصدًا إلاّ من لا يريد الوصول إلى الغاية..
وفي الطريق إلى بناء المَنهج وتحقيقه لا بدّ من العقبات والابتلاءات، والمُلهيات والمُغريات.. للقعود أو النكوص عن الطريق كلّه، ليُمتحَن صدق الإنسان وصبره وثباته.. والله تعالى لا تخفى عليه خافية في الضمائر والقلوب...
وإنّ من أعظم خصائص منهج التشريع الإسلاميّ ومزاياه أنّه يضع القواعد العامّة الناظمة للعلاقات كلّها، ويقيم الأصول الكبرى، التي يقوم عليها صرح البناء، ويترك للناس مسؤوليّة الاجتهاد بحسن الفهم، والاستجابة بصدق العمل بالمَنهج، فيما يستجدّ من أحداث.. وسيجد المُجتمع كلّه نتيجة عمله؛ ثمارًا طيّبة، أو نتائج مرّة، على حسب صدق توجّهه أو نكوصه وانتكاسه..
وإنّ مفتاح الإصلاح في المَنهج الإسلاميّ ذو شعبتين، ولا بديل عنهما بشيء آخر: «التقوى، والتربية». «التقوى لله تعالى الشاملة لكلّ شيء، والتربية على المَنهج الإسلاميّ، المُنبثق عن دين الله تعالى».
وهذا المِفتاح يشمل الإنسان: ذكرًا كان أو أنثى.. ويصبغ الحياة الإنسانيّة بجميع قيمها وعلاقاتها، وهو الروح التي تجمع شرائع الإسلام كلّها، ولا يخرج عنها شيء منها..
والتقوى هي الأصل الكبير لكلّ شأن في حياة الإنسان وبناء شخصيّته وعلاقاته، وهي الحصن الحصين من مخطّطات الأعداء وكيدهم ومؤامراتهم.. وتدبّروا كتاب الله تعالى تجدوا مصداق ذلك، إذ ترون الحديث عنها في كلّ مناسبة، ومع كلّ تشريع..
ومن أهمّ حقائقها هنا: التفهّم الصادق والخضوع المُطلق لمَنهج الله تعالى وشرعه، لا المُناكفة له، بدعوى الاعتراض على اجتهاد العلماء، الذين بذلوا قصارى جهدهم في فهم النصوص، والجمع بينها، وتنزيلها على الواقع، ثمّ لا يكون حظّهم من بعض الخلف إلاّ التنكّر والجحود.. تحت دعاوى شتّى..
ومن أثمن وأدقّ فوائد الإمام ابن تيمية في هذا المَجال قوله رحمه الله: «لا بدّ أن يكون مع الإنسان أصول كليّة تُردّ إليها الجزئيّات، ليتكلّمَ بعِلم وعَدل، (أي فيضع الأمور مواضعها، وفي نصابها الصحيح، وهذا ما يعبّر عنه في مصطلحاتنا بالوزن النوعيّ للعلوم، ومثلها كذلك المَواقف، وفي علم التربية ما يطلق عليه: الأهداف العامّة، والأهداف الخاصّة)، قال: ثمّ يعرف الجزئيّات كيف وقعت؟ وإلاّ فيبقى في كذب وجهل في الجزئيّات، وجهل في الكليّات، فيتولّد فساد عظيم». مجموع الفتاوى لابن تيمية.
ومفتاح «التقوى، والتربية» مسيرته طويلة، وسيرته حميدة، وهو بطيء التأثير، لا يأتي دفعة مفاجئة، ولا يعجل لعجلة المُستعجلين، ولكنّه موثوق الآثار، مضمون الثمرات والنتائج.. ولا تستطيع قوّة من قوى الأرض أن تقف في وجهه، وتحول بينه وبين التأثير.. ومع ذلك فكثير من الناس يستهينون به، أو يستبطئونه، لأنّهم لا يرون نتائجه العاجلة السريعة.
ومفتاح «التقوى، والتربية» مسؤوليّته فرديّة ومجتمعيّة، لا يخرج عنها، ولا يستطيع التنصّل منها أحد.. التقوى هي موضوع المَنهج، والتربية هي الوسيلة الكبرى لتحقيق المَنهج.. والتقوى ينبغي أن تتجسّد في برامج عمل، لا أن تكون مواعظ على الألْسِنَة، سرعان ما يذهب تأثيرها.. وتحتاج إلى مقالة خاصّة للإحاطة بجوانبها وأهمّ حقائقها ..
هذا والله تعالى أعلم وأحكم، وصلّى الله وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا: أن الحمد لله ربّ العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة