مسرى الأرض ومعراج السماء.. بيان وأضواء!

إنّها رحلة ليست كأيّ رحلة ومعراج لا يمكن للعقل القاصر أن يتصوَّرَه، فضلًا عن أنْ يصدِّقَه. ولكنّ المعجزة تخترق كلّ حدود وليس لها مثيل في العصور، لصالح النبي ناقة تخرج من الصخرة بعد أن انشقَّت عنها الغبرة، وعصا موسى عليه السلام تلتهم مكائد فرعون والسحرة وهي صمّاء كانت لا يزفر منها زفرة.
ولكن لمحمّد عليه الصلاة والسلام آية أخرى. فقد أراد الله مواساته وترويح نفسه بعد أن نال منه شياطين مكّة وأذاقوه مرارة الشتم في ثقيف، وردّوه بلا حتّى استماع لدعوته ولا نظرة. فكان أن دعا ربّه وعيناه إلى السماء بكلّ لوعة وحسرة، وكان في دعواه: "إذا لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي..." وهل يغضب الحبيب من حبيبه، والنجيّ من نجيّه؟! أنت يا محمّد يا من قرن الله اسمه العليّ مع اسمك ورفع لك ذكرك ووضع عنك وزرك وأيّدك بمعجزة خالدة إلى يوم القيامة، نعمة القرآن معجزة البيان من الحكيم الديّان.
ولكن من مؤيّداته لك أن أعطاك ما يواسي به أَلَمَك لصدّ قومك عنك وتكذيبهم لك. فكانت معجزة الإسراء والمعراج. يقطع أوّلًا الأميال من مكّة وحولها الجبال إلى بيت المقدس أرض الطور. وصلّى إمامًا بكلّ نبيّ ورسول في المسجد الأقصى المبارك حيث لا تجمع إلّا من اجتباهم الله بالقبول. وكان ذلك دليلًا قاطعًا على أنّه هو المقدّم عليهم وهو الشهيد يوم يشهد كلّ نبيّ على قومه وحيث لا شفاعة لغير مَنْ يَأذَن له ربّه وهو محمّد لِمَن وجبت لهم النار ونالوا فيها من الويل والثبور. وقد وعده الله ألّا يخزيَه في أُمَّته بكرامته عند الله وشفاعته.
وتأتي معجزة المعراج لاحقة بالإسراء بالبراق النوراني حيث صعد به في تاريخ من عصر الصحراء الترابي حيث لا مراكب فضائيّة ولا خيالات علميّة. ولا بدّ من قطع خمسمائة سنة ضوئيّة لتصلَ إلى سماء واحدة عليّة. فكان كلمح البصر في السماء الأولى، فشاهد من آيات الله الجليّة ومن أنبياء الله ذوي المراتب العليّة. ويصعد من سماء إلى سماء في ومضات. ويشاهد في سماء منها مقاعد أهل النار ومشاهد للعتاة الفجّار. وما أعدّه الله لكلّ مَن أفسد في الأرض ونال في العرض وأكل السُّحت وشرب الخمر، ومَن ظلم العباد وأمعن في الفساد. ودخل الجنّة ومسّ تربتها الزكيّة كالمسك الأذفر مطليّة، وشاهد مِن أهلها مَن يحصدون الأجر بجهادهم في الدنيا سنابل قمح ذهبيّة. ووصل إلى حيث لم يصل بشر من المراكز في أعلى الدرجات السماويّة. وكان المشهد الذي جسَّده القرآن بأبلغ عبارات محكيّة. {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ* فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ*مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ *أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ *عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ *إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ* مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ* لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ}. ويمكن لنا القول هنا إنّ في الآية الأخيرة إشارة إلى أنّه قد رأى الآية الكبرى وهي رؤية ربّه. ثمّ كلَّمه ربّه وفرض عليه وعلى أُمَّته الصلاة لعظيم قدرها وأنها هي للدين كلّه راية، وهي أوّل ما يُسأل عنه العبد عند الحشر، وهي العهد بين أهل الإيمان واتباع الغواية، ومن تركها كان حقًّا على الله أن يرديه ولا يرضيه.
وعاد رسولنا إلى الأرض ولمّا ينادي المنادي لصلاة الفجر بعد ولمّا تشرق الشمس ولمّا يبرد فراشه. وكأنّه طاف سويعات من الوقت طواف القدوم من سفره. ولمّا حدّث رسولنا الناس بهذه المعجزة وما ناله من حُظْوَة من صاحب الأمر والحضرة. ناله من التكذيب ما ناله من عديمي اليقين، إلّا أبا بكر رضي الله عنه الصدّيق ومن في قلبه اعتقاد سليم بصدق الرسول في خبره اليقين.
وبعد فنحن نحتفل اليوم بذكرى الإسراء والمعراج لا للعرض فقط ولا للسرد والتمتّع بالآيات التي رآها نبيّنا ومصطفانا، فلقد سمعنا منها الكثير وعرف بها الصغير قبل الكبير، ولكن الأمر أبعد من ذلك بكثير ففيها إشارات ضوء في النفق الكبير الذي نحياه اليوم. ونحن قد تركنا المسجد الأقصى محطّ الإسراء في غياهب الاحتلال وقيوده أسيرًا يدنّس أرضه ومحرابه عدوّ ملعون مغضوب عليه، ويقول للعالم كلّه أنا هنا حيث أشاء أقف أو أسير. ولكن طيف نور بشائر النصر القادمة من غزّة العزّة المحرّرة على الأقصى ينير ويبشّر بفجر جديد.
إنّ هذه الرحلة المباركة لم تكن لتسلية قلب حبيب الرحمان فقط ومواساته من أعداء الله اللئام، من تاريخ امتدّ لألف سنة وأكثر من الأعوام نحيا بظلّ تذكُّرِه كلّ عام بالسرد والإفهام. وإنّما يُراد منه إحياء الأُمّة كلّها بمعناه، وأنْ تفهمَ فَحْواه، وأنْ تَعُدَّ العدّة لتحرير أقصاه، والصلاة فيه ونشر راية الإسلام خفّاقة تعلو فوق كلّ بنيان. وعد الله لا يخلف الله وعده ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون. والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الأول
الثورة البيضاء.. بلا سيف ولا دم مهراق!
قصّة حياة قرآنيّة
التحليل النفسي لرسومات الأطفال
رسالة الشعر