مشهد غزة: عار للأمة أم صعود للقمة؟

مرَّت على هذه الأمة التي اختارها الله خير أمة أخرجت للناس، الكثير من الغزوات والنكبات. حيث أن العدوان على دين الأمة، دين الإسلام، هو شعار مشترك يجتمع عليه أهل الشرك جميعًا، بل وأهل الكفر قاطبة في بقاع الأرض. فقد واجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بداية الدعوة الشرك الوثني في مكة، ومن ثم واجهوا الغدر اليهودي في المدينة. ولما استقر للأمة كيان الدولة الفتية، كان بانتظارها عدو فارسي، أخمد المسلمون نيران كسرى إلى الأبد.
ولما كان وعد الله سبحانه أن يظهر رسوله ودينه على الدين كله، لقوله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} [التوبة]. انظروا معي إلى مضمون الآية، لم يقل سبحانه أرسل رسوله بالدم والسيف، بل بالهدى ودين الحق. ويمكن أن نشهد بقول أحد المؤرخين الغربيين الذي قال: 'ما عرف التاريخ فاتحًا أرحم من المسلمين.' ومن لا يصدق فليعد إلى وصايا الخلفاء وأمراء الحرب المسلمين على مر التاريخ. نعم، كان المسلمون فاتحين، ولكن لم يكونوا سفاحين أو قاتلين في غزواتهم، ونصرهم كان لإعلاء كلمة دين الله في أرض الله.
لقد مر في التاريخ الإسلامي القديم العديد من الغزوات من أعداء الإسلام المتربصين، فكان الغزو المغولي، وكان الغزو الصليبي، وكلاهما أغمد سيفه الغادر في كل ميادين الحياة بشرًا وحجرًا وشجرًا. ومن يجهل ما فعلوه فليراجع التاريخ العادل المنصف ليجد أن المغول أولًا قد قتلوا الآلاف من البشر، وأسالوا دماء الأطفال والشيوخ في شوارع بغداد والشام، وأحرقوا كل مظاهر الحضارة والمدنية، وجعلوا نهر دجلة يصطبغ بألوان المخطوطات النادرة من الكتب والمجلدات.
وقيّض الله للأمة المظفر قطز في معركة عين جالوت التي أخرجت الغزاة صاغرين، بعد أن أذاقوا الأمة كأس الهزيمة والاستكانة سنين وسنين. أما الغزاة الصليبيون فقد اجتمعوا من عشرات بلدان الغرب المسيحي، ورفعوا شعار التجارة والعبور الحر لبلدان الشرق، ومنها بلاد المسلمين.
دخلوا إلى بيت المقدس حيث كان هناك مخطط صليبي في التصليب، لا يقل شراسة عن المخطط اليهودي للتهويد. وكان دخول الصليبيين إلى القدس داميًا، فقتلوا بشهادة التاريخ أكثر من أربعين ألفًا من المدنيين العزل.
وقيّض الله للأمة صلاح الدين الأيوبي، الذي خاض مع الغزاة معركة حطين الشهيرة، والتي جعلت القوم يفرون إلى بلدانهم خائبين ومخذولين، بعد أن ظنوا أن نشوة النصر لهم ستجعل أقدامهم في بلداننا خالدين.
يمر التاريخ ليدخل عصره الحديث في القرن العشرين، ويساهم إسقاط الخلافة الإسلامية في تركيا في تقسيم بلاد المسلمين وغزوها عسكريًا وفكريًا ودينيًا. ومن ثم تأتي فاجعة احتلال فلسطين على يد اليهود الماكرين بغطاء ووعد غربي آثم اسمه وعد بلفور المشؤوم، الذي جعل لحفدة القردة والخنازير موطأ قدم في أرض باركها الله وجعل فيها رسالات موسى وعيسى عليهما السلام، ومسرى ومعراج خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام.
دخل شذاذ الآفاق من اليهود إلى فلسطين، وبدأت رحلة التهويد والتجريد لأهل البلاد من كل حق، والتخيير بين الرضوخ والعيش بلا هوية وبلا مستقبل للوالد ولا للوليد، أو الهجرة والترك بلا أمل بالرجوع ولا حتى بالحلم البعيد.
تتداعى الأمم كلها من غير هذه الأمة على أكل حق المسلمين في أرضهم، وتكون فلسطين هي القربان الذي تجتمع عليه الغربان فتاكل منه الأرض وتنال من العرض وكرامة بني الإنسان. ويقدر الله سبحانه أن تكون غزة هاشم مشهد حي من مشاهد إما سقوط الأمة وانحدارها إلى أعماق المجهول، أو صعودها إلى قمة النصر المأمول.
وما نراه اليوم في غزة ممّا قد جعل عدو الله وعدوها متمكنًا من شبابها وشيبها وحتى الرضيع فيها قبل فطامه، والكسيح والعاجز الجائع حتى بانت عظامه، ومن نزل عليهم النار والبارود وأحرق أجسادهم، وسال دماؤهم، ومن نزل عليهم الردم فصاروا في ظلمات الظلام ووحشة المكان. أقول: أليس كل هذا له عند الله حساب ومرفوع لأصحابه الأبرار كتاب؟ وصدق الله إذ يقول: 'كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم * يشهده المقربون.' جعل الله شهداء فلسطين في تلك المنزلة العليا، وأيدهم بنصره وعزته الأبدية.
وجعل من خذلهم وتركهم ولم ينصرهم، وهو من جلدتهم ومن إخوانهم في الدين، وهو قادر على نصرتهم، أقول: جعلهم الله للناس آية، وأجرى عليهم عقابه عاجلًا غير آجل، والله ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
مشهد غزة: عار للأمة أم صعود للقمة؟
البينونة الـمفتَعَلة بين دراسة الـنّصوص والعصور الأدبيّة
التكنولوجيا وأثرها على الأسرة بين الإيجابيات والسلبيات
الأسرة في مرمى التغيير: قانون جديد أم مشروع تفكيك؟
مع اشتداد محنة أهل فلسطين المباركة: اللهم أنت المرتجى وإليك الملتجى